حقوق الأسير..
لقد ضرب رسول المثل الأعلى في التعامل مع الاسرى بإنسانية لا نظير لها ولا مثيل، أضاف الى ذلك العفو والصفح عنهم بلا مَّن ولا فِداء في أغلب الأحيان
فلم يكن حثُّ الرسول ﷺ على العفو عن الأسرى، والمن عليهم أمرًا خياليًا لتجميل صورة الإسلام، بل كان أمرًا واقعيًا تعجز جميع المنظمات الإنسانية والحكومية العسكرية وغيرها عن القيام بمثله، بل تقف صاغرة أمام سماحة هذه النبي العظيم وهذه الشريعة الغراء.
مع ما نشهده اليوم من انتهاك فاضح لأدنى الحقوق الإنسانية في السجون والمعتقلات وخصوصا ما يمارس ضد الأمة الإسلامية في كثير من بقاع العالم.
ولعل ما حدث في سجن أبو غريب في العراق وما يحدث في سجون الاحتلال الصهيوني وما حدث ويحدث في سجون الروهنجا (بورما) وكذلك ما حدث في غونتانامو وغيره كثير نموذج واضح وفاضح لهذه الانتهاكات المستمرة.
وأجمل ما في هذه المواقف النبوية أنها لم تكن مواقف عابرة حدثت نتيجة ظروف خاصة، أو تحت ضغوط معينة، إنما كانت منهجًا ثابتًا، وسنة ماضية، وتشريعًا خالدًا استحال أن يجود الزمان بمثله، ولنستعرض بعضا من هذه المواقف التي تظهر رحمته وعفوه عن أسرى أعدائه:
أسيرا سريّة نخلة
أول أسيرين يظفر بهما المسلمون
أَسَرَ المسلمون في هذه السرية – وكانت في رجب من السنة الثانية من الهجرة – اثنين من المشركين هما أول أسيرين في الإسلام؛ الحَكَم بن كيسان وعثمان بن عبد الله، فأما الأول – الحَكَم – فنظرًا لما وَجَدَهُ من المعاملة الكريمة فإنّه أَسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، وأقام عند رسول الله حتى استُشهِدَ يوم بِئْرِ معونة في السنة الرابعة للهجرة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرًا…[1]
ومع أنّ هذين هما أوَّل أسيرين يظفر بهما المسلمون بعد طول العناء والتعذيب من مشركي مكة اللذان ينتسبان لهما هذان الأسيران؛ إلا أن ذلك لم يكن دافعًا لرسول الله ﷺ أن يمسَّهما بأذى، بل على العكس تماما كان الإكرام والصفح عنهما.
وهذا الموقف له دِلالات كبيرةٌ، وأبعاد مثيرة، نأت عن كل الأحقاد وعن هوى النفس والانتقام ورسمت طريقا واضحا مختلفا يختلف عن كل المبادئ السائدة في تلك الحقبة حيث اوضَّح ﷺ منذ البداية سياسته في التعامل مع الأسرى، تلك السياسة التي لا نظيره لها ولا مثيل في مجتمعات يأكل القوي فيها الضعيف لا رحمة فيها ولا عدل، وتتجلى هذه الصورة بشكل أوضح وأبهى في تعامله مع أسرى بدر بعد أقلّ من شهرين من سريّة نخلة.
أسرى بدر
رفض القتل واخذ الفدية
كانت معركة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين، وقد كان النصر حليف المسلمين مع قِلّة عددهم وعُدَّتهم؛ وقد أَسَرُوا من المشركين سبعين رجلاً، وقد واستشار رسول ﷺ أصحابه رضي الله عنهم بشأن الأسرى، وماذا يفعل بهم؟
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوّةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدًا، فقال رسول الله: “ما ترى يا ابن الخطاب؟” قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تُمكِّنني من فلان – قريب لعمر – فأضرب عنقه، وتُمكِّن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتُمكِّن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى الرسول ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلتُ – أي عمر رضي الله عنه – وأخذ منهم الفداء.[2]
وعلى الرغم من نزول الآيات بعد هذا الموقف تُعاتب النبيّ صلى الله عليه و سلم أنه أخذ بالرفق واللين مع هؤلاء الأسرى في هذا الموقف “لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” رغم ذلك؛ لم يكن ذلك دافعًا لأن يُسِيءَ الرسول صلى الله عليه و سلم معاملةَ هؤلاء الأسرى، أو يُغَيِّر من تعامله معهم بعد أن أخذ قرارًا بعدم قتلهم، وقبول الفدية ممن يستطيع دفعها.
وقد تفاوت مقدار هذه الفدية بحسب حالة كل أسير.
فقد أطلق الرسول ﷺ بعض الأسرى كعمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلق المشركون سراح سعد بن النعمان بن أكال، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر.
ومن الأسرى من كان يفدي نفسه بالمال، وكان ﷺ يُراعي الحالة الماديّة لكلّ أسير، فمنهم من دفع أربعة آلاف درهم كأبي وداعة، وأبي عزيز واسمه زرارة بن عمير – وهو أَخٌ لمصعب بن عمير رضي الله عنه – دفعتها أمّه، وكانت صاحبة مالٍ وفير، ومنهم من دفع مائة أوقيّة كالعباس بن عبد المطلب، ومنهم من دفع ثمانين أوقيّة كعقيل بن أبي طالب، وقد دفعها له العباس، ودفع بعض الأسرى أربعين أوقيّة فقط[3].
أمّا من لم يكن معه مال، وكان يَعرفُ القراءة والكتابة فكان فِداؤه أن يُعَلِّم بعض المسلمين القراءة والكتابة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ[4].
ومن هؤلاء الأسرى مَن مَنَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عليه بغير فداء مثل: المطلب بن حنطب، وأبي عزة الشاعر، وصيفي بن أبي رفاعة[5]
ومن الواضح أنه تم إطلاق سراح من بقي من أسرى بدر خلال أقل من عامٍ من غزوة بدر، ومما يؤكِّد هذا الأمر أن المشركين في أُحُد لم يتفاوضوا على أيِّ أسرى.
من مواقف الرحمة العجيبة في السيرة!
المن بغير فداء
قال عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَأَخَذَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ فَقَالَ: مَا نَعْرِفُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ قَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَكَتَبَ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَهْلَ مَكَّةَ فَأَمْسَكَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ وَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ فَقَالَ: اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكَتَبَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمْ السِّلَاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَدِمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا فَقَالُوا: لَا فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا”.
أي أن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله ﷺ، بالحديبية يلتمسون غِرَّتَهُمْ ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله ﷺ فأتى بهم أسرى، فخلى عنهم رسول الله ﷺ, ومنّ عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين.
فهذا عفو في موقف عجيب، فالمسلمون ممنوعون من دخول مكّة، وقريش قد أَعَدَّت العُدَّة لحربهم، ومع ذلك لا يأخذ الرسول ﷺ هؤلاء الأسرى رهينة، بل يمنَّ عليهم بغير فِدَاء، ولا يجعلهم ورقة ضغط على المشركين حتى في هذا الموقف الصعب!
إنها الرحمة في أرقى صورها!
أسر ثمامة بن أثال:
بل استضافة في مسجد رسول الله
كان ثمامة بن أثال زعيمًا مشهورًا من زعماء بني حنيفة، وكان قد قرر أن يأتي للمدينة المنورة ليقتل رسول الله ﷺ، فأسره أصحاب النبي ﷺ، وجاءوا به إلى المسجد النبوي، فماذا كان رَدُّ فعل رسول الله ﷺ مع من جاء ليقتله؟! إن الرجل الآن أسير، والأسير يجب إحسان معاملته، والقاعدة لا استثناء فيها، ومن ثم قال ﷺ لأصحابه: “أحسنوا إساره”، وقال أيضًا: “اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه”، فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة
الرسول ﷺ.
ثم انظر إلى هذا الحوار الراقي الذي دار بين رسول الله ﷺ والرجل الذي جاء ليقتله، فأصبح أسيرًا:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟
فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟
قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى كَانَ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ: مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟
فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ”.
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟
فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
ولم يأسر النبي ﷺ ثمامة فحسب، بل أسر قلبه بهديه وسمته وذلك عندما علم ثمامة أن أسره في المسجد لم يكن من أجل التقييد أو الحبس بل كان لغاية سامية وبمعاملة راقية تخللها الحوار الهادئ المصحوب بالاحترام، الخالي من العنف والتهديد والتعذيب والاهانة، شاهد ثمامة انموذجا راقيا من الحياة والتعليمات الإسلامية شاهدها مشاهدة عملية واقعية، لا نظرية لها.
حتى صدور الإرادة النبوية السامية بالعفو عن ثمامة وإطلاق سراحه سراحا مطلقا جميلا، بلا شرط وبلا قيد، وحينها سارع ثمامة بالفرار من الكفر وليس من مكان الاسر، بعدما انقلبت الموازين وتبدلت المفاهيم، ذهب واغتسل وجاء للنبي ﷺ معلنا اسلامه ومحبه لهذا الدين العظيم وللنبي الكريم، وأصبح جزء من هذه العائلة الكبيرة بل جنديا من جنودها، لدرجة دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل محاربتها لرسول الله، مضحيًا بتجارة وثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومضحيًا كذلك بعلاقات مهمة مع أشراف قريش.
وفي هذا الحديث أن النبي ﷺ حرص على توفير المأوى للأسرى فقد كان ﷺ يجعلهم في أحد مكانين إما المسجد وهو أشرف مكان عند المسلمين، وإما بيوت الصحابة رضوان الله عليهم.
لم يحبسهم في العراء عُراة تحت لهيب الشمس المحرقة، ولم يصلبنهم في جذوع النخل، ولم يجعلهم في حفر تحت الأرض ضيقة مظلمة. ولم يمارس عليهم ضغوطا نفسيه وجسدية وغيرها.
بل كان هدفه ﷺ من إبقاء الأسرى في المسجد أن يَرَوْا أخلاق المسلمين وعبادتهم لعلهم يتأثّرون بها، فيدخل الإيمان في قلوبهم، كما حدث ذلك لثمامة بن أثال رضي الله عنه.
وأما إبقاء الأسرى في منازل الصحابة رضي الله عنهم فكان هذا إكرامًا كبيرًا من المسلمين لهؤلاء الأسرى؛ فعن الحسن البصري مرسلا أن رسول الله ﷺ كان يُؤتَى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: “أَحْسِنْ إليه”، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فَيُؤْثِرُهُ على نفسه.
قال الزمخشري في ((الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل)) (4/ 668): وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام.
وقارن ما سبق ذكره وبين ما حدث في غزو أفغانستان حين قامت قوات الولايات المتحدة الأمريكية باقتياد 800 مقاتل من طالبان بعد استسلامهم إلى معتقل قلعة جانجي في أفغانستان ثم أمرت الطيران الحربي بقصف المعتقل مما خلف مئات الجثث المتفحمة، كما قامت بشحن 3000 أسير أفغاني في حاويات نقل مغلقة بحجة نقلهم إلى سجن شبرقان بأفغانستان وتركتهم في العربات المغلقة في الصحراء وهم مقيدين ومعصوبي الأعين لمدة أربعة أيام مبتكرة طريقة جديدة للقتل البشع[6]
النهي عن التفريق بين الآباء والأبناء في الأسر
لم يراع النبي ﷺ حق الأسرى فحسب، بل راعى مشاعرهم واحاسيسهم وعاطفتهم وقد ورد كل ذلك في العديد من المشاهد الحية في حياته ﷺ.
فنجد النبي ﷺ يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأم وطفلها؛ فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: “مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[7].
ولعلّ القصّة التالية تكون خاتمة جميلة لهذا المبحث، حيث تظهر فيها رحمة الرسول ﷺ وتتجلى في أبهى صورها، فقد أتى أبو أُسَيْدٍ الأنصاري رضي الله عنه بسبي من البحرين فَصُفُّوا، فقام رسول الله ﷺ، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: ما يُبْكِيكَ؟ فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله ﷺ لأبي أسيد: لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ به، فركب أبو أسيد فجاء به[8]!
لقد رَقَّ قلبه رسول الله ﷺ لبكائها وأحس بحزنها وألمها، مما استدعاه أن يأمر بإحضار طفلها، فأي قائد يفعل ذلك من أجل أسيرة؟!
إنه الرحمة المهداة للعالمين إنه الصادق الأمين إنه محمد ﷺ، وصدق الله إذ قال:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (الأنبياء: 107)
اطعام الأسرى وكسوتهم
ولو تأملت الآيات الواردة في حق الأسير لوجدت عجبا عجابا فقد عرض سبحانه وتعالى في كتابه مكارم الأخلاق التي يدخل بها الناس في عداد ” الأبرار ” السعداء حيث قال تعالى في وصفهم:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا،
وهذا يراد به عموم الأسرى من المسلمين ومن المشركين، أي ويطعمون الطعام بطيب نفس وعدم تكلف وعلى حب الله تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاءَ مرضاته {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً، ولا نقصد الحمد والثناء.
قال ابن كثير – رحمه الله -)8/288) “قال ابن عباس كان أسراهم يومئذ مشركين ويشهد لهذا أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء. وَهَكَذَا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة. انتهى لأن كل كبد رطبة ففيها أجر.
لم يقتصر المسلمون على إطعام أسراهم من المشركين؛ بل إنهم كانوا يُقدّمون لهم الملابس أيضًا، وهذا ثابت في الصحيح، فقد جعل البخاري – رحمه الله – بابًا في الصحيح سمّاه: باب الكسوة للأُسارى، وذكر فيه أن جابر بن عبد الله {قال: ” لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَنَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ فَكَسَاهُ النَّبِيُّ ﷺ إِيَّاهُ…” الحديث[9]
والعجيب أن كتب الفقه الاسلامي أفردت الأحكام الخاصة بالأسرى وجعلتها جزء من الفقه، وتجد في تلك الكتب من التفصيلات والتفريعات ما لا تجده في أي شريعة أخرى
وبعد هذا الاستعراض الموجز لوصايا النبي ﷺ في الحرب يتبادر في الذهن سؤال هل رأت البشرية نظاما وقانونا وتشريعا مثل الذي رأينا من وصاياه؟
أقول وبكل فخر واعتزاز عجزت البشرية باسرها بمنظماتها الإنسانية والعسكرية والاجتماعية، على إيجاد منظومة متكاملة كتلك التي جاء بها النبي ﷺ، بل فضحت الحروب التي خاضها المدعون للإنسانية وحقوقها تلك الدعوات الزائفة فحجم الدمار الهائل الذي خلفته حروبهم فيما بينهم كشفت زيفهم وانسلاخهم عن القيم وتجردهم من الاخلاق وتخليهم عن الإنسانية وشتان شتان بين دعوة ربانية سماوية وبين دعوة يزعم أصحابها أنها إنسانية.
[1] السيرة النبوية لابن كثير 2/366 بتصرف
[2] اخرجه ومسلم (1763) وأحمد في المسند (208) وأبو داود (2690).
[3] الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 14.
[4] رواه أحمد في المسند (2216) عن ابن عباس بإسناد حسن، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/172: رواه أحمد عن علي بن عاصم وهو كثير الغلط والخطأ ووثَّقه أحمد.
[5] عيون الأثر لابن سيد الناس 1/352.
[6] انظر (مستشرق أسباني): لجان ليك ص 43 والإسلام والغرب للدكتور محمد الحسيني اسماعيل،، ص 162، 163.
[7] رواه أحمد (23546)، الترمذي (1566)، وقال: حديث حَسَنٌ غريب، والحاكم (2334) وقال: هذا حديث صحيح، والطبراني في الكبير (4080)، والبيهقي في سننه (18089) وصححه شيخنا الألباني.
[8] رواه الحاكم (6193)، وابن وهب في مسنده (29) وسعيد بن منصور في سننه (2654). البيهقي في سُننه (9/ 126) وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: “مرسل”.
ويعني بالإرسال هنا الانقطاع بين أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وبين أبي أسيد -رضي الله عن ثم قال البيهقي عقب الحديث: “هذا وان كان فيه إرسال، فهو مرسل حسن شاهد لما تقدم”.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع…
[9] رواه البخاري (2846)،