مواقف نبوية سماوية في الحرب:
إن المتأمل في أخلاقه ﷺ وسيرته حتى في حروبه ضد اعدائه فإنه ليعتقد جازما أنها أخلاق نبوية وأنها تعاليم اللاهية سماوية تسموا عن كل النواقص وتعلوا عن كل الشوائب.
ولم تكن حالات الحرب والقتال لتُخرِجَ نبينا محمد ﷺ عن أخلاقه السامية، وعن رحمته ﷺ التي يَتَحَلَّى بها في حَالَ السَّلْم فضلا عن حالة الحرب، على الرغم من الظلم والبطش والعذاب والتنكيل الذي لحق به وبأصحابه، فما كان ذلك مسوغا للثأر والانتقام والرد بالمثل، بل جاءت وصاياه ﷺ لأصحابه نبراسا ونورا تهتدي بها البشرية بأجمعها إن هي سلكت طريقه واحتذت حذاه
لم تكن حروب الرسول ﷺ حروب تخريبه كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على الإبادة الجماعية وانهاء كافة مظاهر الحياة لدى خصومهم، وينتهجون سياسة حرق الأرض، بل كانت على العكس من ذلك تماما.
وسوف أجمل تلك الوصايا وتلك التشريعات في النقاط التالية:
أولا: لم يكن النبي ﷺ مبادرا للحرب:
بل كان مضطرا على خوضها، فتارة كانت للدفاع عن الوطن والنفس والأهل وحرمات وأعراض المسلمين، وتارة للدفاع عن حرية العقيدة، وتارة أخرى لتأمين سبل الدعوة الى الله.
فلم يكم مبادرا ومسارعا لها بل قال صلى الله عليو سلم “لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا. رواه البخاري ومسلم. وقد قَالَ اِبْن بَطَّال: حِكْمَة النَّهْي: أَنَّ الْمَرْء لَا يَعْلَم مَا يَئُول إِلَيْهِ الْأَمْر، وَهُوَ نَظِير سُؤَال الْعَافِيَة مِنْ الْفِتَن، وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيق: ” لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُر أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِر”
ولا شك أن لقاء العدو فيه من البلاء والإيلام والجراح والفتنة التي تتخلخل معها كثير من النفوس وتضطرب، ولهذا لما جاء الأحزاب إلى المدينة تكشفت كثير من الأمور، فكان المنافقون يقولون: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}[الأحزاب: 12-14].
((ولسنا نعني بحتمية الحروب أننا نشتهيها أو نترقّب حدوثها، بل نحن على العكس من ذلك، فنحن المسلمين لا نجعل الحرب إلاّ آخر القرارات، ونهاية الحلول، ولا نسعى إليها إلا لردِّ حقٍّ، أو دفعِ شرٍّ، أو تأمينِ حياة.
فإذا كانت الحرب ضرورية لا مهرب منها، فإن الإسلام سعى إلى ضبط حروب المسلمين بضوابط أخلاقيّة تحميها من التدنِّي إلى رذائل الأفعال، ومنكرات الأمور، ووحشية التصرف، وهذا الأمر حثّ عليه الإسلام كثيرًا في كتاب الله الكريم، وفي سُنّة وسيرة الرسول العظيم)) [1].
وقد قرّر الفقهاء أن مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء وليس الكفر؛ فلا يُقتل شخصٌ لمجرّد مخالفته للإسلام، إنما يُقتل لاعتدائه على الإسلام، وغير المقاتل لا يجوز قتاله، وإنما يُلتزم معه جانب السلم[2].
ثانيا: يحرم الاعتداء ولا يجوز قتل من لم يقاتل:
وحتى وإن كان في ساحة القتال، وهذا يدل على عظم هذا الدين في كافة الميادين، فقد جاء بضوابط وأخلاقيات لم يسبق إليه.
ومنها قاعدة تحريم الاعتداء على الآخرين بغير حقٍّ، أو التَّعدِّي على الأبرياء بغير ذنب اقترفوه.
من أجل ذلك قرَّرت الشريعةُ الإسلاميَّة: أنَّ قتال الذين لا يشتركون في القِتال ولا يَقدرون عليه هو نوعٌ من الاعتداء الذي نهى الإسلام عنه، وذَمَّه وحرَّمه، وعدَّه من الجرائم الحربيَّة.
ومن الأدلة على ذلك:
قوله الله – تعالى -: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].
قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ في السياسة الشرعيَّة، (ص: 105): “وإذا كان أصلُ القتال المشروع هو الجِهادَ، ومقصودُه هو أن يكون الدِّين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العليا، فمن مَنَع هذا قوتِل باتِّفاق المسلمين.
وأمَّا من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنِّساء والصِّبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن ونحوهم – فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلَّا أن يُقاتِل بقوله أو فِعْله.
وقد يَتَّخِذُ البعض قاعدة “المعاملة بالمثل” مبرّرًا لهم ليفعلوا ما يشاءون في أعدائهم، محاربين كانوا أو مدنيّين، ولكنَّ الإسلام لا يُقِرُّ القسوة أو الظلم مهما كانت المبرّرات، ولذلك لا يُطبق هذه القاعدة مع المدنيين للدولة المحاربة، حتى لو آذوا المدنيين في بلادنا!
يقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
قال القرطبي رحمه الله: دَلّت الآية على أنّ كُفر الكافر لا يَمنع من العدل معه، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قَتلوا نساءنا وأطفالنا وغَمُّونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغمِّ والحزن إليهم
فهل في مناهج الأرض مثل منهجنا؟!
ثالثا: النهي عن قتل المحارب الكافر إن أعلن اسلامه في ساحة الحرب:
فعن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: بعثَنَا رسولُ اللَّه ﷺ إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا الْقَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنهُمْ، فَلَمَّا غَشيناهُ قَالَ: لا إِلهَ إلَّا اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدينَةَ بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ لِي: يَا أُسامةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّه إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ. متفقٌ عَلَيهِ[3].
وفي روايةٍ: فَقالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَقَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَومَئذٍ.
وعن جُنْدبِ بنِ عبداللَّه رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ بعثَ بَعْثًا مِنَ المُسْلِمِينَ إِلى قَوْمٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُم الْتَقَوْا، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ إِذا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ غفلَتَه، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلمَّا رَفَعَ السَّيْفَ قَالَ: لا إِله إِلَّا اللَّهُ، فقَتَلَهُ، فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلى رَسُول اللَّه ﷺ فَسَأَلَهُ، وأَخْبَرَهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَر الرَّجُلِ كَيْفَ صنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ! أَوْجَعَ في المُسْلِمِينَ، وقَتلَ فُلانًا وفُلانًا – وسَمَّى لَهُ نَفرًا – وإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لا إِله إِلَّا اللَّهُ، قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: نَعمْ، قَالَ: فَكيْفَ تَصْنَعُ بلا إِله إِلَّا اللَّهُ إِذا جاءَت يوْمَ القيامَةِ؟! قَال: يَا رسولَ اللَّه! اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: وكَيف تَصْنَعُ بِلا إِله إِلَّا اللَّهُ إِذا جاءَت يَوْمَ القِيامَةِ؟! فَجَعَلَ لا يَزيدُ عَلى أَنْ يَقُولَ: كيفَ تَصْنَعُ بِلا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جاءَتْ يَوْمَ القِيامَةِ؟! رواه مسلم. رقم: (97)
والمقصود أنَّ مَن ظاهره الكفر ثم أسلم يُقْبَل إسلامه، ويُوكل أمره وسريرته إلى الله تعالي كما فعل صاحبُ أسامة وغيره.
وهكذا ما قال عمرُ رضي الله عنه: كان الناسُ يُؤخذون بالوحي على عهد النبي ﷺ، وإن الوحي قد انقطع – أي: بموت النبي ﷺ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمَن أظهر خيرًا قرَّبناه، وأمِنَّاه، وليس لنا من سريرته شيءٌ، الله الذي يُحاسبه على سريرته، ومَن أظهر شرًّا لم نُقربه، ولم نأمنه.
وفي هذه الواقعة حرصه ﷺ على حقن الدماء، وانه يقبل إسلام الشخص مهما كان تاريخه العدائي.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع …
[1] أخلاق رسول الله في الحروب وبعدها للدكتور راغب السرجاني بتصرف
[2] المدونة الكبرى 3/6، فتح القدير 4/291، بداية المجتهد 1/371