لا غدر في الإسلام..
الغدر خُلُقٌ ذميم من أخلاق المنافقين، والوفاء بالعهود والمواثيق من الأخلاق الفاضلة والصفات الطيبة التي أكد نبينا ﷺ عليها، ودعا إليها بقوله وفعله، ولم يتخلف وفاؤه طوال حياته لأحدٍ أبداً، أقرَّ بذلك العدو والصديق، فمع كفر مشركي قريش به وشدة عداوتهم له، إلا أنهم اعترفوا وأقروا بفضله ووفائه، فقال مكرز بن حفص لرسول الله ﷺ: “ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيراً، بل عُرِفتَ بالبر والوفا”. ولما سأل هرقل أبا سفيان – وهو عدو لرسول الله حينئذ -: “أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر”.
وكان النبي ﷺ حريصًا على أن يغرس في نفوس أصحابه خُلق الوفاء في الحرب وكما كان ﷺ يحذرهم من الغدر، وينهى قادة جيوشه عنه، فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: ((اغزُوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتِلوا مَن كَفَر بالله، اغزوا ولا تَغدِروا، ولا تَغلُّوا ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))[1].
وقد وصلت أهمية الأمر عند رسول الله ﷺ أن يتبرّأ من الغادرين ولو كانوا من المسلمين، ولو كان المغدورُ به كافرًا؛ فقد قال النبي ﷺ: “منْ أمّن رجُلاً على دمّهِ فقتلهُ، فأنا برِيءٌ مِن القاتِل، وإِنْ كان المقْتُولُ كافِرًا”.[2]
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – ﷺ -: “مَنْ أَمِنَ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[3]
قال المناوي: “الغدر: نقض العهد والإخلال بالشَّيء وتركه”.
وقال النووي: “قوله ﷺ ـ: (ولا تغدروا) بكسر الدال.. وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر”. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها (يتركها): إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) رواه مسلم، قال النووي: “الصحيح المختار أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي ﷺ بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار”.
وقال المناوي: “((وإذا عاهد غدر)) أي: نقض العهد”،
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: “(وإذا عاهد غدر) يعني: إذا أعطى عهداً على أي شيء من الأشياء غدر به ونقض العهد، وهذا يشمل المعاهدة مع الكفار، والمعاهدة مع المسلم في بعض الأشياء ثم يغدر بذلك”.
لقد حرم نبينا ﷺ الغدر، سواء كان مع مسلم أم مع كافر أو فاجر، والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحاديث الدالة على النهي عن الغدر ولو كان مع المشركين،
ومنها:
ـ سافر المغيرة بن شعبة وهو مشرك مع بعض أصحابه من المشركين، فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، ولما شاء الله عز وجل له الهداية، توجه إلى النبي ﷺ ليعلن إسلامه، فقد روى البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان قد صحب قوماً (قبل إسلامه) في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي ﷺ: (أما الإسلام فَأَقْبَلُ، وأما المال فَلَسْتُ منه في شيء)، وفي رواية لأبي داود وصححها شيخنا الألباني أن النبي ﷺ قال للمغيرة: ((أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه))، وقال ابن حجر في فتح الباري: “قوله: ((أما الإسلام فأقبل)) بلفظ المتكلم، أي: أقبله، قولـه: ((وأما المال فلستُ منه في شيءٍ)) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، ويستفاد منه: أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدَّى إلى أهلها مسلِماً كان أو كافراً، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي ﷺ ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم”.
ـ عن حذيفة رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهدَ بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْل، فأخذنا كفارُ قريشٍ، قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريدُه، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهدَ الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتل معه، فأتينا رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نَفِي بعهدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم) رواه مسلم. قال المناوي: “(انصرفا، نَفِي بعهدِهم) أمْرٌ لحذيفة وأبيه بالوفاء للمشركين بما عاهدوهما عليه حين أخذوهما وأخذوا عليهما أن لا يقاتلوهما يوم بدر، فاعتذرا للنبي ﷺ، فقبل عذرهما وأمرهما بالوفاء، (ونستعين الله عليهم) أي: على قتالهم، فإنما النصر من عند الله لا بكثرة عَدَد ولا عُدَد، وقد أعانه الله تعالى وكانت واقعة (بدر) أعزَّ الله بها الإسلام وأهله”. قال المهلب: “الغدر حرام بالمؤمنين وبأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق وللعنة الله والملائكة والناس أجمعين..”
ـ بعد الانتهاء من كتابة وثيقة صلح الحديبية بين النبي ﷺ والمشركين، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو في قيوده هارباً من المشركين في مكة، فقام إليه أبوه ـ سهيل ـ فضربه في وجهه وقال: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ ـ وذلك حسب العهد بينهم وبين النبي ﷺ ـ. فأعاده النبي ﷺ للمشركين، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أَأُرَدّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فقال له النبي ﷺ: (إنا عقدنا بيننا وبين القوم عهداً، وإنا لا نغدر بهم)، ثم طمأنه وبشره النبي ﷺ قائلا: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا) رواه أحمد.
ـ عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال: بعثتني قريش إلى رسول الله ﷺ، فلما رأيت رسول الله ﷺ أُلقِيَ في قلبي الإسلام، فقلت يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله ﷺ: ((إني لا أخيس بالعهد)) أي: لا أَنقُضُ العَهدَ ولا أُفسِدُه، ((ولا أَحبِسُ البُرُدَ))، أي: الرُّسُلَ، ((، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت، ثم أتيت النبي ﷺ فأسلمت)) رواه أبو داود صححه الألباني. قال ابن القيم: “قال أبو داود: وكان هذا في المدة التي اشترط لهم أن يرد إليهم من جاء منهم”، وقال الهروي: “وفيه أن العهد يُراعَى مع الكفار كما يراعى مع المسلمين”.
لقد كان نبينا ﷺ المثل الأعلى في مكارم الأخلاق، فكل خلق محمود له منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه، ولن تجد في كتب التاريخ والسير ـ من فجر الخليقة إلى قيام الساعة ـ أحداً يداني أو يضاهي رسول الله ﷺ في كمال خُلقه، وباهر وفائه، فهو خير البرية أقصاها وأدناها، وهو أبرّ بني الدنيا وأوفاها، وقد قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، وما وُجِدَ على الأرض أنقى سيرة وسريرة، وأوفى بوعْد وعهدٍ ـ مع صديق أو عدو ـ منه ﷺ، فلم يؤثر عنه في حياته كلها أنه نقض عهداً قطعه على نفسه، ولذلك كان أعداؤه مع كفرهم به وشدة عداوتهم له يقولون عنه: “ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيرا، بل عُرِفتَ بالبرِّ والوَفا”.[4]
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع…
[1] أخرجه مسلم (1731)، وأبو داود (2613).
[2] اخرجه البخاري: التاريخ الكبير 3/322، وابن حبان (5982)، والبزار (2308)، والطبراني: المعجم الكبير (64)، والمعجم الصغير (38)، والطيالسي في مسنده (1285)، وقال شيخنا الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (6103).
[3] وأخرجه احمد في المسند (21946)، النسائي في “الكبرى” (8686 – 8688) وابن ماجة (2689) وابن حبان في صحيحه (5982). بإسناد صحيح
[4] شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم