الرسول الكريم يأمر بالرفق وينبذ العنف:
فإن النبي ﷺ أتى إلى البشرية بتطهير النفس من الأخلاق الرديئة وحثها على الأخلاق الحسنة. ومن أعظم الأخلاق الفاضلة التي أوصى بها النبي ﷺ خلق الرفق ذلك الخلق الرفيع الذي يضع الأمور في نصابها ويصحح الأخطاء ويقوم السلوك ويهدي إلى الفضائل ويقي شر الرذائل بألطف عبارة وأحسن إشارة وطريقة مؤثرة.
ولا تكاد ساحة من ساحات الإسلام إلا وللرفق فيها النصيب الأكبر والحظ الأوفر، سواء على مستوى التشريع الفقهي أو في جانب العلاقات الاجتماعية أو في المعاملة حتى مع الخصوم والأعداء أو في غيرها من مناحي الحياة، هذا فضلا عن أنه سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرفيق الذي يحب الرفق قال ﷺ: ((إنَّ الله رفيق يحب الرِّفق في الأمر كلِّه))، فمن أسمائه سبحانه: الرفيق، وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور والتدرج فيها. وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال”.
فالله رفيق في أمره ونهيه فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة، بل يتدرج معهم من حال إلى حال حتى تألفها نفوسهم وتأنس إليها طباعهم، كما فعل ذلك سبحانه في فرضية الصيام وفي تحريم الخمر والربا ونحوهما.
وكان رسوله -ﷺ- نبراسا في هذا الشأن ما لم تنتهك حرمة من حرمات الله.
قال تعالى واصفا نبيه ﷺ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
يقول تعالى مخاطبًا رسوله ﷺ، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينًا لولا رحمة الله بك وبهم.
– وقال سبحانه مخاطبًا الرسول: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] (أي: ارفق بهم وألن جانبك لهم) (2).
وقال سبحانه مخاطبا موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44].
أي: قولا له قولا سهلًا لطيفًا، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال، لَّعَلَّهُ بسبب القول اللين يَتَذَكَّرُ ما ينفعه فيأتيه، أَوْ يَخْشَى ما يضره فيتركه، فإنَّ القول اللين داع لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه)[1].
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال(( إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ)).
كل هذا الارتباط الوثيق بين الإسلام والرفق جعل منه بحق دين الرحمة والسماحة وجعل منه أيضا الدين الأكثر رواجا وانتشارا من بين سائر الأديان على الرغم من تلك الحملات المضللة التي حاولت النيل منه والإساءة له وتشويهه واظهاره للناس بأقبح مظهر وبأبشع صورة، ومهما حاول أعداء هذا الدين من إطفاء صوره سوداء قاتمه عليه وعلى أتباعه، فإن جهودهم الى الذهاب والخراب، ومهما سخروا من وسائل الاعلام المختلفة، ومهما انتجوا من برامج وافلام ومسلسلات، تظهر افكهم وافترائهم، ومهما جندوا من الحمقى والمغفلين أصحاب الأقلام المستأجرة المأزورة، ومهما انفقوا من مليارات الدولارات ليصدوا عن عند دين الله، فإنهم سيُغلبون وسوف يخسرون ثم تكون عليهم حسرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}(36) ومهما حاولوا أن يطفئوا نور الله فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، فنور الله لا يطفئه أحد، فلا غالب إلا الله قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
محروم من حرم الرفق
محروم من حرم الرفق، محروم من الخير ومحروم من الهناء ومحروم من راحة البال ومحروم من الصحة والعافية.
قال رسول الله صلى عليه وسلم «من أُعْطِيَ حَظَّهُ من الرِّفْقِ فقد أُعْطِيَ حَظَّهُ من الخيرِ، ومن حُرِمَ حَظَّهُ من الرِّفْقِ فقد حُرِمَ حَظَّهُ من الخيرِ» [2]
قال رسول الله ﷺ «مَن يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخيرَ كُلَّه»[3]
وقوله -ﷺ- (من أعطي حظه من الرفق) أي نصيبه منه (فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير) كله إذ به تنال المطالب الأخروية والدنيوية وبفوته يفوتان،، يعني أن نصيب الرجل من الخير على قدر نصيبه من الرفق، وحرمانه منه على قدر حرمانه منه، وهذا شيء مجرب ومشاهد أن الإنسان إذا صار يتعامل بالعنف والشدة؛ فإنه يحرم الخير ولا ينال الخير، وإذا كان يتعامل بالرفق والحلم والأناة وسعة الصدر؛ حصل على خيرٍ كثير، وعلى هذا فينبغي للإنسان الذي يريد الخير أن يكون دائماً رفيقاً حتى ينال الخير.
قال الغزالي: “الرفق محمود وضده العنف والحدة، والعنف ينتجه الغضب والفظاظة، والرفق واللين ينتجهما حسن الخلق والسلامة، والرفق ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب، وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولذلك أثنى المصطفى ﷺ على الرفق وبالغ فيه”.
قال ﷺ «إذا أرادَ اللهُ بأهلِ بيْتٍ خيرًا أدخلَ عليهِمُ الرِّفْقَ»[4] وذلك بأن يرفق بعضهم ببعض، وذكر (الخير) بصيغة النكرة لإفادة التعميم أي إذا أراد جميع الخير والمقام يقتضيه. «إنَّ اللهَ إذا أحبَّ أهلَ بيتٍ أدخلَ عليهِمُ الرِّفقَ»[5]. «يا عائشةُ أرْفُقِي! فإنَّ اللهَ إذا أرادَ بِأهلِ بَيْتٍ خيرًا، دَلَّهُمْ على بابِ الرِّفْقِ»[6]. وسبب الحديث ما روى المقدام بن شريح عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة فقالت: كان رسول الله ﷺ يبدو إلى هذه التِّلاعِ وإنه أراد البَداوةَ مرة فأرسل إليَّ ناقةً مُحرَّمةً من إبل الصدقة، فقال لي: «يا عائشَةُ، ارفُقي فإنَّ الرِّفقَ لم يَكُن في شَيءٍ قطُّ إلَّا زانَهُ، ولا نَزعَ مِن شيءٍ قطُّ، إلَّا شانَهُ»[7] والتلاع مسابل الماء من علو إلى أسفل. واحدها تلعة. «ما أَعْطَى أهلُ بَيتِ الرِّفْقَ إلَّا نَفَعَهُمْ، ولا منعُوهُ إلَّا ضَرَّهُمْ»[8].
قال المناوي: “إذ بالرفق تنال المطالب الأخروية والدنيوية وبفوته يفوتان”.
هذه الأحاديث تدل دلالة ظاهرة على منزلة الرفق، وما ينتج عنه من تحصيل المنافع والمطالب، وما يحصل من تركه من الفوت والخسران.
الرفق في حياة النبي ﷺ
لقد كان رسول الله ﷺ يعيش الرفق ويتمثل به في سائر أحواله وشؤونه وأيامه لا يكاد ينفك عنه حتى في أشد وأصعب المواقف واللحظات، كيف لا وهو القائل (إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله) أي لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل والدفع بالأخف وذلك (في الأمر كله) في أمر الدين وأمر الدنيا، حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكد ذلك في معاشرة من لا بد للإنسان من معاشرته كزوجته وخادمه وولده، فالرفق محبوب مطلوب مرغوب، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشر. وفيما سنذكره الآن من سيرته وحياته ﷺ لأكبر دليل على ذمه ومحاربة ومواجهة للعنف بكافة اشكاله وألوانه
الرفق مع الأهل
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.
((مَا ضَرَبَ)) ((بِيَدِهِ)) لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَادَةً يَكُونُ بِالْيَدِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ)) لِفَهْمِ أَنَّهُ مَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّهُ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: ((مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ)).
((شَيْئًا))؛ أَيْ: آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.
((وَقَطُّ))، كَمَا مَرَّ، لِتَأْكِيدِ الْمَاضِي.
((إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ))؛ أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِيَدِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِيَدِهِ فِي أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ ﷺ أَحَدًا سِوَاهُ.
وَأُبِيُّ بْنُ خَلَفٍ أَشْقَى النَّاسِ، فَإِنَّ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيُّ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
((وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً)) وفيه أن النبي ﷺ ما ضرب أحداً لا خادماً ولا غيره بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله، وهذا من كرمه ﷺ؛ أنه لا يضرب أحداً على شيءٍ من حقوقه هو الخاصة به؛ لأن له أن يعفو عن حقه، وله أن يأخذ بحقه.
ولكن إذا انتهكت محارم الله؛ فإنه ﷺ لا يرضى بذلك، ويكون أشد ما يكون أخذاً بها
وهذه تربية وأخلاق عالية، كون الإنسان لا يضرب بيده أحداً، وكذلك أيضاً أنه لا ينتقم لنفسه، وإنما يكون انتقامه لله -تبارك وتعالى.
الرفق مع الخادم
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ، أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!
فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ، وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.
لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.[9].
الرفق مع الأطفال
فعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قالت: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ)). أخرجه البخاري.
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (كان رسول الله ﷺ يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح على رؤوسهم). رواه النسائي. وكان ﷺ يمازح الصغار وكان دائما يقبل الحسن والحسين ويلاعبهما. وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة رفقا بها.
تمثل الإنسانية الحقة في العطف والمودة، واللطف والمحبة بين الناس، وأعلى درجاتها ما يكون بين الرجل والأطفال، فإنها آنذاك خالصة بريئة، لا تستهدف مقابلا، ولا ترجو من الطفل نفعا، إنها أنذاك نابعة من القلب والوجدان والإحساس المرهف، والصدر الحنون ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا العطف، فقد كان يحمل الصبيان، ويتحمل أذاهم بصدر رحب، ونفس راضية، يركبون على ظهره في سجوده، فيظل صلى الله عليه وسلم ساجدا إشفاقا عليهم، وخوفا عليهم من الوقوع، ويبولون على ثيابه، فينزعج من حوله من الصحابة، وتحاول أم الطفل خطفه، فيقول: دعوه حتى يتم بوله ولا تقطعوه، ويراه بعضهم يقبل طفلا، فيعجب، فيقول: تقبلون الأطفال يا رسول الله؟ نحن لا نقبلهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: وما لنا وقد قدت قلوبكم من الحجارة؟ من لا يرحم لا يرحم.
ومن أجل غمر الأطفال بالحنان، وعدم التحرز أو التأفف ممن حملهم خفف الله عن الأمة معالجة أذاهم وتبعاتهم، وعفا عن غسل بولهم، واكتفى بصورة الغسل لا حقيقته، بل بمجرد الرش، ونضح قليل الماء.
وشاعت هذه الشريعة السمحة بين أمهات الأطفال، كما شاع حب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ورأفته بهم، وتحنيكه ودعاؤه لهم، فأسرعت كثيرات من الأمهات بحمل أطفالهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلتمسن منه الدعاء، ويرجون منه التحنيك، ومن هؤلاء أم قيس، حملت طفلها الذي يقتصر على رضاعة اللبن ولم يأكل بعد الطعام وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، فمضغ تمرة ثم أخذها يدلك بها سقف حلق الطفل والحنك، ثم دعا له بالبركة، وبينما هو كذلك بال الطفل في حجره صلى الله عليه وسلم، ورأت الأم البول يسيل على ثوب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فأسرعت تخطفه من حجره.
فقال دعيه.
وتركه حتى أكمل بوله، ثم أعطاه لها، ودعا بقليل من ماء فرشه على ثيابه، ومكان بلله فصدق من سماه الرءوف الرحيم، وخاطبه بقوله{وإنك لعلى خلق عظيم }[10] القلم: 4
الرفق مع السائل ولو كان غليظا جافيا
عن أنس -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله -ﷺ- وَعَلَيْهِ بُرْد نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِي فَجَبذَهُ[11] بِرِدَائِهِ جَبْذَة شَديدة، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ -ﷺ- وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَة الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِه، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاء. متفق عليه.
وفيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم مِن الحِلْم والتَّصبُّر والعفو والشَّفقة على قومه.
الرفق في تعليم الجاهل:
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: ” بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ[12]؛ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي؛ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللَّهِ: مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)[13].
وفِيهِ: بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – ﷺ – مِنْ عَظِيمِ الْخُلُقِ الَّذِي شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِهِ، وَرِفْقِهِ بِالْجَاهِلِ، وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ التَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ – ﷺ – فِي الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ وَاللُّطْفِ بِهِ، وَتَقْرِيبِ الصَّوَابِ إِلَى فَهْمِهِ.[14]
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: (أنَّ أعْرَابِيًّا بَالَ في المَسْجِدِ، فَثَارَ إلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا به، فَقالَ لهمْ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: دَعُوهُ، وأَهْرِيقُوا علَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ، أوْ سَجْلًا مِن مَاءٍ، فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.). رواه البخاري.
وفي رواية لمسلم: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ ﷺ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: “إِنَّ هذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله – عزّ وجل -، وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ”
وعند أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله ﷺ جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي ﷺ: لقد تحجرت واسعاً. ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي ﷺ، وقال: إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين. صبوا عليه سجلا من ماء – أو قال -: ذنوبا من ماء.
وتأمل رفقه ﷺ بتعليم هذا الرجل الذي ارتكب هذا الخطأ في مسجده ﷺ، فلم يزد عليه الصلاة والسلام أن قال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن
رفقه بالشاب الذي أراد الزنا
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أنَّ فَتًى شابًّا أتى النَّبيَّ – صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ – فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إئذَنْ لي بالزِّنا، فأَقبلَ القومُ علَيهِ فزَجروهُ وقالوا: مَهْ. مَهْ. فقالَ: أدنُهْ، فدَنا منهُ قريبًا. قالَ: فجَلسَ قالَ: أتحبُّهُ لأُمِّكَ؟ قالَ: لا. واللَّهِ جعلَني اللَّهُ فداءَكَ. قالَ: ولا النَّاسُ يحبُّونَهُ لأمَّهاتِهِم. قالَ: أفتحبُّهُ لابنتِكَ؟ قُل: لا. واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ جَعلَني اللَّهُ فداءَكَ قالَ: ولا النَّاسُ يحبُّونَهُ لبَناتِهِم. قالَ: أفتُحبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قُل: لا. واللَّهِ يا رسول اللَّه جعلَني اللَّهُ فداءَكَ. قالَ: ولا النَّاسُ يحبُّونَهُ لأخواتِهِم. قالَ: أفتحبُّهُ لعمَّتِكَ؟ قُل: لا. واللَّهِ يا رسولَ اللَّه جَعلَني اللَّهُ فداءَكَ. قالَ: ولا النَّاسُ يحبُّونَهُ لعمَّاتِهِم. قالَ: أفتحبُّهُ لخالتِكَ؟ قل: لا. واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ جَعلَني اللَّهُ فداءَكَ. قالَ: ولا النَّاسُ يحبُّونَهُ لخالاتِهِم. قالَ: فوَضعَ يدَهُ عليهِ وقالَ: اللَّهمَّ اغفِرْ ذنبَهُ وطَهِّر قلبَهُ، وحصِّن فَرجَهُ فلم يَكُن بعدُ ذلِكَ الفتَى يَلتَفِتُ إلى شيءٍ. [15]
وفي الحديثِ: بيانٌ لِمَا كان عليه ﷺ مِن مكارمِ الأخلاقِ وحُسنِ السِّياسةِ.
وفيه أنه ينبغي على الداعي إلى الله تعالى أن يحرص على هداية الناس، ويتحلى بالرفق مع من أراد المعصية، ويحرص على هدايته، ولا ينفِّره من طريق الله تعالى، وإن دعا له بالهداية والصلاح فهو أحسن وأولى من الدعاء عليه بالسوء، ما دامت معصيته في خاصة نفسه، ولم يكن ممن ينشر السوء ويسعى في إفساد الناس.
الرفق مع العاصي التائب
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان، فقال رسول الله ﷺ: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي ﷺ فبينما نحن على ذلك أُتي النبي ﷺ بعَرَق فيه تمر، والعرق: المكتل، فقال النبي ﷺ: أين السائل؟ قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدَّق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك” متفق عليه[16].
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الغَنَوِيَّ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى المُشْرِكِينَ، قَالَ: فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: قُلْنَا: أَيْنَ الكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا، فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، قَالَ صَاحِبَايَ: مَا نَرَى كِتَابًا، قَالَ: قُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا، وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ: مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيَّرْتُ وَلاَ بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلَّا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، فَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: فَقَالَ: يَا عُمَرُ، وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ.
وكان حاطب من أهل بدر، وهذه كانت زلة وغلطة فقبل النبي منه عذره وأنه ما أراد كفرًا ولا ضلالاً، وإنما تأول وظن أن هذا جائز له ليدفع عن أهله وماله بمكة حين كتب لبعض المشركين يخبرهم بمسير الرسول ﷺ إليهم، حين غزوة الفتح، فأنزل الله في هذا السورة العظيمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1].
الرفق في التعامل مع غير المسلمين
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: السَّامُ[17] عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ. متفق عليه.
وفيه الحث على الرفق في الأمور كلها. قال النووي: في هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين، إذا لم يترتب عليه مفسدة، قال الشافعي: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل.
وكان ﷺ يخاطب الكفار ويناظرهم ويقبل هديتهم ويعود مريضهم ويجيرهم ويحسن إليهم إذا اقتضت المصلحة ذلك.
ومع كون الرفق غالبا على تصرفات النبي ﷺ في كثير من أحواله إلا أنه استعمل الشدة في أحوال خاصة كانت الشدة هي اللائقة بها والمناسبة لها وخصوصا إذا انتهكت محارم الله وضيعت الحقوق والحاصل أن الفقه والبصيرة في الدين هي أن الأصل في الأمور كلها الرفق إلا في أحوال قليلة تستعمل الشدة. قال النووي في شرح حديث الرفق: (وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة).
هذا هو رسول الله ﷺ وهذه أخلاقه فما احوجنا إلى هذه القدوة العظيمة، نحن بحاجة إلى الرجوع إليها والاستسقاء من موردها ومعينها، نحن بحاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة، نحن بحاجة إلى بشاشته صلى عليه وسلم وإلى سمحته وإلى وده الذي وسع الناس جميعا، وحلمه لا يضيق بجهل الناس وضعفهم ونقصهم سيما في ظل الحملات الشرسة على الإسلام وأهله، نحن بحاجة للتمسك بهذا الهدي النبوي العظيم وحينئذ لن تسفر تلك المكايد إلا عن فشل وخسارة ذريعة ومريرة.
النهي عن استخدام العنف مع الحيوانات وايذائهم
روى البخاري في (الصحيح) (3318) من حديث عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال ((دخلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربَطَتْها، فلم تَطعَمْها، ولم تَدَعْها تأكلُ من خَشاشِ الأرضِ)). أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا، هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ. وجاء في روايات أخرى ((حتى ماتت)).
قال ابن العربي: “ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي فكيف بالمسلم فكيف بالتقي الصالح”.
وجاء حديث آخر: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فَسَقَتِ الْكَلْبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ الله عَنْهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي، حَتَّى إِذَا مَلأْتُهُ لإِبَلِي؛ وَرَدَ عَلَىَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي؛ فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي في ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ؛ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
قَالَ: ((فِي كُلِّ كَبدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)).
هذه الأحاديث هي الأصل الأول لما يسمى بالرفق بالحيوان، وينبغي أن يعلم القاصي والداني والحاضر والبادي والعالم أجمع أن الإسلام سبق جميع الحضارات فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية، سواء حقوق الإنسان، أو الرفق بالحيوان، فهو أول من أصَّل وأسس قضية الرفق بالحيوان، فشريعة تنهى عن إيذاء الحيوان، فكيف لها أن تجيز إيذاء الإنسان، فالإنسان من باب أولى، إن هذه الحقائق الدامغة تبطل هذا الإفك وهذا الافتراء، الذي نراها صباح مساء في وسائل الإعلام المختلفة وتقلب الطاولة على رؤوس الحاسدين الحاقدين، وتكشف زيفهم وتجلي حقيقتهم.
أبحر بخيالك في بديع هذا المشهد أبطاله كلب وامرأة بغي وأعجب من جمال النهاية؛ هي امرأة امتهنت الزنا تسير معبئة بالخطايا والرذيلة؛ وفجأة؛ تجد كلباً يلهث ويأكل الثرى من شدة العطش؛ فتأخذها الشفقة والرحمة به التي هي بالأساس من رحمة الله بها أن هيئها لترحم الكلب؛ فما كان منها إلا أن خلعت حذائها فملئته ماءاً لتسقي الكلب مرة تلو مرة حتى روي الكلب؛ فما كان من الكلب إلا شكر صنيعها لله؛ فما كان من الله في علياءه إلا أن غفر لها؛ وأين ذهب زناها وبغيها؟ ذهب كله بسقيا كلب… الله أكبر [18].
وبين يدينا صورةٌ مخالفةٌ للأصل، ومناقضةٌ للفطرة الأنثويّة، أخبر عنها رسول الله – ﷺ –، جرت وقائعها أيّام الجاهليّة، والقصّة أن امرأة كانت تملك هرّة، فبدلاً من رعايتها والاعتناء بها، وبدلاً من إطعامها والإحسان إليها، إذا بها تحبسها وتمنعها من الخروج، وليت الأمر اقتصر على ذلك فحسب ولكنها منعت عنها الطعام والشراب، دون أن تُلقي بالاً إلى أصوات الاستغاثة التي كانت تصدر من الهرّة.
وظلّت الهرّة تعاني من الجوع والعطش أياما وليالي، لم تجد فيها شيئاً من طعام يشبع جوعتها، أو قطرة ماءٍ يطفئ ظمأها، ولم يُسمح لها بمغادرة البيت علّها تظفر بشيء تأكله ولو كان من هوام الأرض وحشراتها، حتى فارقت الحياة، والمرأة تنظر إلى ذلك كلّه دون أن تحرّكها يقظة من ضميرٍ أو وازعٌ من خير فتدخل بهذا الفعل الشنيع النار.
وقد يستغرب البعض ويتعجب أيدخل إنسان النار من أجل حيوان !!؟
الإجابة نعم فمن لا يرحم لا يرحم، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وقوله ((ارحموا من في الأرض» أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر والوحوش والطير
بل إن الله عاتب نبي من أجل نمل حرقه فقد روى البخاري [3019] عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ»
قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]. قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره ((تيسير الكريم الرحمن)): “أي: جميع الحيوانات، الأرضية والهوائية، من البهائم والوحوش والطيور، كلها أمم أمثالكم خلقناها. كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا، كما كانت نافذة فيكم.
بل وصل الأمر إلى وجوب إحداد آلة الذبح للحيوان عند الذبح حتى لا يعاني، وهذا يوضح منهج الإسلام في العناية والرحمة بالحيوان.
فعن رسول الله ﷺ أنه قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته))؛ رواه مسلم.
وعن ابن عمر أنه مرَّ بفتيان من قريش, قد نصبُوا طيراً أو دَجاجة يترَامونَها، وقد جعلوا لصاحبها كلَّ خاطئة من نبّلهم -جعلوها هدفاً لسهامهم, ليتدربوا على الرمي-، فلما رأوا ابنَ عمر تفرَّقوا، فقال ابن عمر: مَنْ فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إنَّ رسولَ الله ﷺ لَعَنَ من اتخذ الروح غرضاً[19]
يعني هدفاً، فهذه الأحاديث ونظائرها دالة على – تحريم قتل كل ذي روح – لاتخاذها غرضا.
قصة النبي والعصفور
جاء الإسلامُ بالرَّحمةِ لكلِّ الخَلْقِ إِنْسًا وجِنًّا وحيوانًا وطيرًا وغيرَ ذلك، ومِن مظاهر تلك الرحمة: النَّهي عنْ أنْ تُعذَّبَ الحيواناتُ بالنَّارِ أو أنْ تُفْجَعَ بأَخْذِ صِغارِها أو بَيضِها، كما في هذا الحديثِ، الذي يقولُ عبدُ الله بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه: “كُنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ في سَفَرٍ فانْطَلَق لحاجتِه”، أي: تَرَكَ المسيرَ لقضاءِ حاجتِه مِن البولِ أو الغائطِ، “فرَأَينا حُمَّرةً”، وهو طائرٌ صغيرٌ يُشْبِه العُصفورَ، “معَها فَرْخانِ فأَخَذْنا فَرْخَيْها”، والفَرْخُ هو الصَّغيرُ مِنْ أولادِ الطَّيْرِ، “فجاءتُ الحُمَّرةُ فجَعَلتْ تُفرِّشُ”، أي: تَطيرُ وتُرفْرِفُ فزعًا؛ لفَقْدِ فَرْخَيْها وصَغِيرَيْها، “فجاء النَّبيُّ ﷺ فقال: مَنْ فَجَعَ هذه بولَدِها؟” أي: مَنْ أَحْزَنَها وخوَّفَها بأَخْذِ صِغارِها؟ “رُدُّوا ولَدَها إليها”، أي: وأَمَرَ ﷺ بردِّ الصِّغارِ إليها، من أفجع هذه بولدها؟؟؟ ردوا ولدها إليها، فقد هاله حالها وهو يسمع دقات قلبها الملهوف حرقة على ولدها المخطوف، فرَق قلب النبي لها، فقد استشعر آلمها، وأحس بدمعها، وفزعها لفزعها، فأمر بإطلاق صراح اطفالها.
في هذا المشهد الخالد يرسخ النبي ﷺ أجمل تعاليم الرقي والقيم ومحاسن الأخلاق والتعاطف مع أضعف وأدنى المخلوقات، ومع طير صغير يوليه هذا الاهتمام الكبير.
ثم قال: “ورَأى”، أي: النَّبيُّ ﷺ، “قريةَ نَمْلٍ قَدْ حرَّقْنَاها”، أي: حُرِّقَتْ بالنَّارِ، والمُرادُ بالقَريةِ: هي مَساكِنُها، فقال ﷺ: “مَنْ حَرَّقَ هذه؟” قال بعضُ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عَنْهم: “نَحْنُ”، فقال النَّبيُّ ﷺ: “إنَّه لا يَنْبَغي أنْ يُعذِّبَ بالنَّارِ إلَّا ربُّ النَّارِ”، أي: ليس لأيِّ إنسانٍ أن يُعذِّب أيَّ رُوحٍ إنسانًا كانتْ أو حيوانًا؛ لأنَّه لا يُعذِّبُ بالنِّارِ إلَّا خالِقُها، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ، وهذا نَهْيٌ صريحٌ عَن الحَرْقِ بالنَّارِ أو التَّعْذيبِ بِها؛ لأنَّه أَمْرٌ مُخْتَصٌّ باللهِ فَقَط.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
[1] تفسير السعدي (506)
[2] (رواه الترمذي؛ رقم: [2013] وقال: “حسن صحيح”).
[3] رواه مسلم بدون قوله: (كله) فهي عند أبي داود.
[4] أخرجه أحمد (24734) وقد صححه شيخنا في صحيح الترغيب (2669)
[5] صحيح الجامع؛ رقم: [1704]
[6] السلسلة الصحيحة؛ رقم: [523]
[7] صحيح (سنن أبي داود) رقم: [2478]
[8] السلسلة الصحيحة؛ رقم: [942]).
[9] انظر الْخُلُقُ الْكَرِيمُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ لمحمد بن رسلان
[10] فتح المعلم شرح صحيح مسلم
[11] أي: فجذب الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم “بردائه جبذة شديدة
[12] (وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ) الثُّكْلُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَبِفَتْحِهِمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ، كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ فِقْدَانُ الْمَرْأَةِ وَلَدَهَا
[13] رواه مسلم (537)
[14] “شرح مسلم” للنووي (5/20) وقد بينت فوائد هذا الحديث في كتابي ((الفوائد البيهة بأحكام التشميت الشرعية))
[15] رواه أحمد 5/ 256، والطبراني في المعجم الكبير 8/ 162، 183، والبيهقي في شعب الإيمان 4/ 362 (5415)، قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار 1/ 592: رواه أحمد بإسناد جيد، ورجاله رجال الصحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 129: رجاله رجال الصحيح، وصححه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 712 (370)،
[16] أخرجه البخاري برقم (1936)، ومسلم (1111).
[17] السام أي الموت
[18] مقال المرأة البغي والكلب لأحمد حسين غريب
[19] رواه مسلم (1957، 1958)