الرسول الكريم يحذر من الغلو والتطرف:
لقد جاء الإسلام آمراً بالوسطية والاعتدال والاقتصاد في كل أمر من أمور الدين والدنيا، حتى مُيزت هذه الأمة عن سائر الأمم بذلك وخصت بها، قال سبحانه وتعالى: {وكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ} [ البقرة: 143].
والواقع أن الوسطية في الإسلام منهج حياة تشمل جميع جوانبه وتجد أثرها واضحة جلية في كل توجيهاته وتشريعاته، ولا تنفك عنه بحال من أحواله، مما جعل منه حضارة مزدهرة، تسمو على جميع الحضارات، وشريعة سامية تعلو على جميع التشريعات، وتستقر في قلوب من استشرفها أفرادا وجماعات.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: ((الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)).
وَالحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).
فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الانْقِيَادَ.
شريعة سمحة سهلة لا تشديد فيها ولا تعقيد، تسير وفق ما جاء به النبي ﷺ من ربه الذي خلقنا والذي يعلم ما فيه صلاحنا}أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]{الملك: [14.
ويقول سبحانه آمرا بالاستقامة والاعتدال والإحسان، ناهيا عن الغلو والتطرف والطغيان:}فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{[هود: 112]. أي وَلَا تَغْلُوا فَتَزِيدُوا عَلَى مَا أَمَرْتُ وَنَهَيْتُ
فالتطرف والغلو في الدين فيه مشقة تتعارض مع تعاليم الإسلام السمحة الداعية الى اليسر ورفع الحرج قال تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.(4 (الاعراف 157.
فالإِسْلَامُ قَصْدٌ بَيْنَ المِلَلِ، وَالسُّنَّةُ قَصْدٌ بَيْنَ المحدثات والبِدَعِ، وَدِينُ اللهِ بَيْنَ الغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ.
وقد حرم الإسلام التطرف والغلو في الدين، لأن فيهما صد عن سبيل الله بما يسببه من تشويه وتنفير، وتغيير لأحكامه ولصورته الحقيقية، واستبدالها بصورة قاتمة ومظلمة ومنفره.
فدين الله – تعالى – يحمل في تطبيقه السعادة والعدالة للناس، ولا يحمل الشقاء والظلم والعذاب لهم، كما تصور تلك الحملات المضللة والشرسة والمنظمة على هذا الدين وأهله، فالإنسان الذي يأخذ هذا الدين كما أراده الله – تعالى – باعتدال وفهم ووعي ينال السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وأما الذي يشادّ فيه ويتشدد في غير موضع التشدد، ويحرم الحلال والمباح، فإنه ينال الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة، وإلى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة في أول سورة طه: {طه} {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
وجاء في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ ﷺ قَالَ:
(إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)[1] « أي لا أحد يغالي ويشدد في الاعمال الدينية ويترك الرفق.
ويقول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
” ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النافعة والأصول الجامعة، فقد أسّس ﷺ في أوله هذا الأصل الكبير، فقال: ((إن الدين يسر)) أي: ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه:
فقبول الطاعة غير مرتبط بمدى التعب والنصب، لأن الله – تعالى – لا يحب أن يطاع بغير ما أنزله على عباده، فالذي يعبد الله ليلًا ونهارًا بشكل يخالف منهج الله – تعالى – لا تقبل عبادته مهما أتعب نفسه وأرهقها، والله – عز وجل – في غنى عن أعمال العباد، ولكنه – جل شأنه – يفرح عندما يرى عباده على دينه القويم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن النبي ﷺ دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها قال: (مهْ عليكم بما تطيقون فوالله لا يَمَلُّ الله حتى تَملوا) وكان أحب الدِّين إليه ما داوم صاحبه عليه»[2].
لو تأمّلنا هذا الحديث لتجلى لنا عظمة التشريع؛ فالله عز وجل لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها واستطاعتها، بعيدًا عن إرهاق النفس بما لا تطيق ثم الانقطاع عن العمل بسبب عدم القدرة على المداومة على عمل فوق الطاقة.
ومن ثم فإن التشريع جاء لربط الفرد بمجتمعه فأركان الاسلام عبادات، لا تعزل الانسان عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطا به شعوريا وعمليا، ومن هنا تعتبر الارض كلها محرابا للمؤمن، والعمل فيها عبادة وجهادا إذا التزم بحدود الله.
ولم يشرع الاسلام الرهبانية التي تفرض على الانسان العزلة عن الحياة وطيباتها والعمل لتنميتها وترقيتها، ولا يقر ما دعت اليه الديانات والفلسفات الاخرى من اهمال الحياة المادية لأجل الحياة الروحية، ومن أهدار شأن الدنيا، قال تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار} سورة البقرة، الآية: 201
وفي صحيح مسلم (2720) عن أبي هريره انَ رَسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ.
وهذا نفسه ما يدل عليه التوجيه النبوي عندما أُخبر ﷺ عن ثلاثة نفر كلّفوا أنفسهم فوق الطاقة: فعَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))[3]
(فَلَيْسَ مِنِّي): أي ليس ممن اهتدى بهديّ واتبع سنتي، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولا يلزم من ذلك أنه يخرج عن الملة، وكثيرًا ما يستعملها النَّبيُّ ﷺ في المخالفات الشرعية التي تخالف هديه وسنته، وفي ذلك تحذير وتهديد ووعيد لمن يصنع ذلك مصرًّا عليه.
فسمى النبي ﷺ الغلو في جانب العبادات والسنن التي سنها لهم رغبة عن الشرع الذي جاء به، وتبرأ ممن هذه حاله، حتى وإن كان الدافع لذلك التقرب إلى الله تعالى، ذلك أن هذا الغلو فيه هدم للأصل الثاني من أصول هذا الدين ألا وهو الإتباع، فنحن مأمورون بالاقتداء به ﷺ والأخذ بسنته. والغلو في هذا الجانب مناقض تماما لهذا الأصل، ولذلك فلا غرابة أن يتبرأ النبي ﷺ ممن غلا في جانب ما سنه وشرعه للأمة.
فَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.
فالسنة النبوية هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها نجا واهتدى، ومن تخلف عنها غرق وتردى.
قال الزهري: “كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة”.
وقال مالك: “السُنَّة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق”.
قَالَ الحافظ ابن رجب في فتح الباري)1 /89(: ((كان النَّبيُّ ﷺ يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدَّة حرصهم على الطاعات، يريدون الاجتهاد في العمل، فربَّما اعتذروا أن النبي ﷺ غير محتاج إلى العمل؛ بضمان المغفرة له، وهم غير مضمون لهم المغفرة، فهم يحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان ﷺ يغضب من ذلك، ويخبرهم أنَّه أتقاهم وأعلمهم به)) بتصرف
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «دخل النبي ﷺ فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ﷺ: لا حُلُّوه ليُصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد»[4].
قال ابن حجر: “وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها.[5]
ولقد حذرنا الشارع الحكيم من الغلو ومجاوزة الحد المشروع، حتى لا نقع فيما وقع فيه أهل الكتاب من الغلو والإطراء في عيسى عليه السلام قال سبحانه في آية المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]
فإنهم تجاوزوا الحد فيه حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.[6]
وقال سبحانه في آيات عديدة جاءت في النهي عن الطغيان ” وهو غلو في الغي ” كما قال تعالى في آخر سورة طه لبني إسرائيل: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] , وقوله عن فرعون وملئه في غير ما آية: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] , وقال عن الخاسر صاحب الجحيم {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 37 , 38] الآية , ودعا الله تعالى في كتابه العزيز الى الاستقامة والتمسك بها، وعدم الغلو في الدين: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة البقرة 229) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}سورة المائدة 87 – وقال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (سورة النساء 12 – 14) وتعدي الحدود یعني التجاوز، والحدود هي النهايات. لكل ما يجوز من الامور المباحة المأمور بها وغير المأمور.
وقال عليه الصلاة والسلام ناهيا عن الغلو، مبينا أنه سبب هلاك من قبلنا: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))[7].
والمراد هنا بمن قبلنا: أهل الاديان السابقة وقد خاطبهم القرآن بقوله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (77)
وبين عليه السلام أن هذا المتنطع الغالي المتعمق، المجاوز للحد في قوله وفعله هالك لا محالة فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ.. هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ.. هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ))[8].
وَالمُتَنَطِّعُونَ هُمْ: المُتَعَمِّقُونَ، الغَالُونَ، المُجَاوِزُونَ الحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ المُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَالحَدِيثُ أوضح أن الهلاك هي النتيجة الحتمية للتنطع والغلو ومجَاوَزَةِ الحَدِّ فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ قائما على اليسر والتيسير، وليس كما يظهره المتنطعون وليس كما يصوره الحاقدون ممن يستثمرون أمثال هؤلاء من المتشددين في محاولة لأطفأ صبغة سوداء، وصورة قاتمة ظلماء عن هذا الدين وأهله في النواحي والارجاء، وأقوله ﷺ لبراهن ساطع ودليل قاطع على زيف تلك الدعوات الزائفة.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((يسِّروا))؛ يعني: اسلكوا ما فيه اليسر والسهولة؛ سواء كان فيما يتعلق بأعمالكم، أو معاملاتكم مع غيركم؛ ولهذا كان النبي – ﷺ – من هدْيه أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعد الناس عنه.
قال شمس الدين الكرماني: وهذا الحديث من جوامع الكلم لاشتماله على خير الدنيا والآخرة لأن الدنيا دار الأعمال والآخرة دار الجزاء، فأمر -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالدنيا بالتسهيل وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالخير، والإخبار بالسرور، وتحقيقا لكونه رحمة للعالمين في الدارين. أ.هـ
وقال النووي: إنما جمع في الحديث بين الشيء وضده؛ لأنه قد فعلهما في وقتين، فلو اقتصر على «يسروا» لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات وعسَّر في معظم الحالات، فإذا قال «لا تعسروا» انتفى التعسير في جميع الأحوال،
وفي الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، أي: من غير ضمه إلي التبشير، وفيه تأليف من قرُبَ إسلامه، وترك التشديد عليه، وكذا من تاب عن المعاصي يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسَّرتَ على الداخل في الطاعة للدخول فيها سهل الدخول، وكانت عاقبته غالبا التزايد منها، ومتي عَّسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها. أ.هـ
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).
وهذا الخطاب من النبي -ﷺ- لبعوثه وأمرائه الذين كان يبعثهم في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله يجب أن يكون أول من يمتثله هم وُرَّاث النبوة من العلماء والدعاة والعاملين لهذا الدين، بحيث يظهرون للناس يسر الدين، ومظاهر الرحمة فيه، ويبشرونهم بفضل الله إن هم لزموه وعملوا به، ويرشدونهم للسبيل الأيسر فيما فيه سعة وفسحة، ولا يشددوا عليهم فيما يسر الله عليهم، ويحصرونهم بالعزائم في كل الأمور.
فإن التشديد والتنطع يتولد من قلة العلم وضعف الفهم، حتى ولو كان بدافع الحرص على الخير وتطبيق السنن، “فكم من مريد للخير لم يبلغه”، كما قال ابن مسعود في أثر رواه الدارمي، وخلاصته: أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- دخل على جماعةٍ من المسلمين في المسجد، فرأى من أمرهم عجباً، حيث توزّعوا حلقاتٍ وفي وسط كلّ واحدةٍ منها رجلٌ يقول لهم سَبِّحُوا مائة، هَلِّلُوا مائة، فيفعلون ذلك، فأنكر عليهم ابن مسعودٍ ما يفعلونه، فقالوا له: والله ما أردنا إلا الخير، فقال لهم: كلمته التي صارت مثلاً: “كم من مريد للخيرِ لم يصبْه”.
وقد يحصل هذا لبعض العلماء والفضلاء في بداية أمرهم، فإذا اتسعت علومهم، وتقدمت أعمارهم، اعتذروا عما كانوا عليه من التشديد والتعسير، وحمل الناس على أفهامهم واجتهاداتهم القاصرة.[9]
وقد جاء في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: « إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ المَنْبَتَ لا سَفَرَاً قَطَعَ، ولا ظَهْرَاً أَبْقَى[10]».
والمنبتُّ: هو الذي انقطع به السير في السفر وعطلت راحلته ولم يقض وطره، فلا هو قطع الأرض التي أراد، ولا هو أبقى ظهره، أي دابته التي يركبها لينتفع بها فيما بعد. وهكذا من تكلف من العبادة ما لا يطيق، ربما يملُّ ويسأم، فينقطع عما كان يعمله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيُغلب
وقال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع.[11]
وعموما الشريعة الإسلامية بأحكامها وتكاليفها وقواعدها تنحو للتيسير على المكلف في عباداته ومعاملاته، فمع الضرورات تباح المحظورات.
ومع الحَاجَات تَرتَفِع الكَرَاهات.
والْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
ولَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
و َنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
فمظاهر التيسير أكثر من أن تقع تحت حصر في مثل هذا المقام، ولا غرابة أن تكون الشريعة بهذا التيسير والمرونة، فهي إرادة الله بعباده، حيث أراد أن تكون الشريعة مشتملة على اليسر، بعيدة عن التعسير والعنت، فقد قال جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {البقرة:185}
التيسير لا يعني التفلت والالتفاف على الدين
وهنا ملحظ هام جدا: وهو أن الأمر بالتيسير لا يدخل فيه التفلُّتُ والالتفاف على أحكام الشرع، والتنازل لرغبات الناس بحجة التيسير عليهم وعدم التنفير، بل يكون التيسير فيما لم ينص الشرع على منعه، ومن لزم الشرع فقد يسر ولم يعسر.
فالمهم أنه كل ما كان أيسر فهو أفضل ما لم يكن إثمًا؛ وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ..
فالدين -كما هو- يسر لا عسر فيه، واشتمال الأحكام على المشاق المحتملة عادةً لا يتنافى مع التيسير، ويدل لهذا تمام الحديث كما في رواية البخاري حين قال: ((بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا))، قال أبو موسى: يا رسول الله، إنا بأرض يصنع فيها شراب من العسل، يقال له البتع، وشراب من الشعير، يقال له المزر؟ فقال رسول الله -ﷺ-: «كل مسكر حرام».
فمع قوله «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»، لكنه لما سئل عن شيء محرم وهو النبيذ المسكر قال: «كلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ»، فتحريم المحرم لا يتنافى مع التيسير، إذ اليسر والخير في اجتناب المحرم، والعسر والمشقة في ارتكابه وممارسته.
فإن الإغراق في مدافعة الغلو والإيغال في محاربة التشدد، وإهمال ما يضاده من تفريط وجفاء قد يؤول إلى اتخاذ التفريط والإضاعة طريقاً ومسلكاً، كما قد شوهد وجرّب.
وإنما المتعيّن تقرير الصراط المستقيم، وتحقيق لزوم السنة النبوية، وترسيخ العلم الشرعي والعدل والوسط بين طرفيّ الغلو والجفاء، ثم يأتي الردّ والمعالجة للإفراط والتفريط دون تهوين أو تهويل، بل يعالج كل انحراف حسب ظهوره وتأثيره، ولقد سخر الله لهذا الدين علماء يذبون عنه وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين قال رسول عليه الصلاة والسلام: « يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) [12]
وَالحَيَاةُ عَلَى هَذَا المِنْهَاجِ؛ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ ولا تشديد؛ بل حياة أساسها اليسر والسهولة وميزة خصت بها عن غيرها من الأمم.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة
[1] رواه البخاري (39) ومسلم (2816)
[2] رواه البخاري، رقم 43، ورواه مسلم في صحيحه برقم1834.
[3] أخرجه: البخاري (5063)، واللفظ له، ومسلم (1401)
[4] رواه صحيح البخاري، رقم (1150)، ومسلم في صحيحه برقم (1831).
[5] فتح الباري (3/37).
[6] انظر تفسير ابن كثير
[7] أخرجة النسائي في ((السنن))، (3057)، وابن ماجة، (3029) وصححه شيخنا لألباني في صحيح سنن النسائي له (2/640).
[8] أخرجه: مسلم (2670).
[9] جوامع الكلم النبوي
[10] أخرجه البيهقي وضعفه العجلوني في “كشف الخفاء” والألباني في “السلسلة الضعيفة”، وقد روى أحمد في “المسند” الجملة الأولى منه، وهي قوله: إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق. وحسنها الألباني
[11] فتح الباري ” لابن حجر (1/94)
[12] حديث حسن وقد خرجت الحديث مطولا في كتابي ((تصحيح الأخطاء والأوهام الواقعة في فهم أحاديث النبي عليه السلام))