لا يقاتل من أُكرهواعلى القتال:
ومن أخلاقه في الحروب أيضًا أنه كان يعذر أولئك الذين أُكرهوا على القتال، فقد فَأخْرج ابن إِسْحَاق من حَدِيث بن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال لأصحابه قُبيْل غزوة بدر: “إنِّي قدْ عرفْتُ أنّ رِجالاً مِنْ بنِي هاشِمٍ وغيْرِهِمْ قدْ أُخْرِجُوا كرْهًا، لا حاجة لهُمْ بِقِتالِنا، فمنْ لقِي مِنْكُمْ أحدًا مِنْ بنِي هاشِمٍ فلا يقْتُلْهُ، ومنْ لقِي أبا الْبخْترِيِّ بْن هِشامِ بْنِ الْحارِثِ بْنِ أسدٍ فلا يقْتُلْهُ، ومنْ لقِي الْعبّاس بْن عبْدِ الْمُطّلِبِ، عمّ رسُولِ اللهِ ﷺ فلا يقْتُلْهُ فإِنّهُ إِنّما أُخْرِج مُسْتكْرهًا”.[1]
قلت: ويشترط في تحقيق ذلك أن يتجنب مباشرة القتال، لأن الحرب لا يعرف فيها المكره من غير المكرة.
عاشرا: لا أكراه في الدين
ومن عظيم أخلاقه ﷺ في الحروب أنه لم يكره أحدا على الإسلام، قال تعالى {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)
أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقصورا
وقال الزحيلي: “اعتناق الإسلام ينبغي أن يكون عن اقتناع قلبي واختيار حر، لا سلطان فيه للسيف أو الإكراه من أحد، وذلك حتى تظل العقيدة قائمة في القلب على الدوام، فإن فرضت بالإرغام والسطوة، سهل زوالها وضاعت الحكمة من قبولها”.[2]
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99] صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعا، وهو دليل واضح على أن كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية، وبين ذلك أيضا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29] أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر، فمن آمن فقد وفق للصواب، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان.
وسيرته ﷺ زاخرة بالمواقف الدالة على التخيير وعدم الاكراه؛ منها على سبيل المثال لا الحصر موقفه مع الأعرابي الذي خطّط لقتله؛ فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: قاتل رسول الله ﷺ محارب خصفة، بنخل، فرأوا من المسلمين غِرّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرَثُ بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله ﷺ بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: “الله”. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله ﷺ فقال: “منْ يمْنعُك مِنِّي؟!” قال: كن كخير آخذ، قال: “أتشْهدُ أنْ لا إِله إِلاّ اللّهُ؟” قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلّى سبيله!! قال: فذهب إلى أصحابه قال: قد جئتكم من عند خير الناس[3].
فهذا رجل أمسك السيف، ووقف به على رأس رسول الله ﷺ يتهدّده بالقتل، ثم نجّى الله تعالى رسوله، وانقلبت الآية، فأصبح السيف في يد رسول الله ﷺ، ومع ذلك فالحقد والغلُّ لا يعرفان طريقهما أبدًا إلى قلب رسول الله ﷺ؛ فإنه يعرض عليه الإسلام، فيرفض الرجل، ويعاهده على عدم قتاله، فيقبل منه رسول الله ﷺ ببساطة، ويعفو عنه، ويطلقه آمنًا إلى قومه!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((فتح الباري)) (7/ 427) ” فمن عليه لشدة رغبة النبي – ﷺ – في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام ولم يؤاخذه بما صنع بل عفا عنه “
وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذُكِرَ أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير.
وخلاصة القوا أن العقائد لا تغرس بالإكراه، ولكن تغرس بالعلم والإقناع، وذلك أمر معروف في تاريخ البشرية.
ولم يثبت أن المسلمين في عصر من العصور أكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، ولو كان المسلمون أجبروا غيرهم على الدخول في الإسلام.
فكيف يَثْبتوا عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهمُ؟!!
ولو كان دخول الإسلام بالإكراه لما ترك المسلمون أحدًا على غير الإسلام ولأدخلوهم فيه كراهية، وهذا لم يحدث ولن يحدث بإذن الله، ولو حدث لنقل لتوافر الدواعي على نقله. وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفلوا لأتباع الأديان الذين يعيشون في ظل الإسلام البقاء على عقائدهم ودياناتهم، ولم يرغم أحد على اعتناق الإسلام.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع…
[1] أخرجه ابن إسحاق في “المغازي” (سيرة ابن هشام 1/ 628 – 629) حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس به
وأخرجه ابن سعد (4/ 10 – 11) ويعقوب بن سفيان في “المعرفة” (1/ 505) والطبري في “تاريخه” (2/ 449 – 451) وأخرجه البيهقي في “الدلائل” (2/ 140 – 141) من طرق عن ابن إسحاق به.
وإسناده ضعيف للذي لم يسم.
وله شاهد من حديث علي قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم بدر “من استطعتم أنْ تأسروا من بني عبد المطلب فإنهم خرجوا كرها”
أخرجه أحمد (1/ 89) ويعقوب بن سفيان في “المعرفة” (1/ 504 – 505) والبزار (720) وابن المنذر في “الأوسط” (11/ 217) من طرق عن إسرائيل يونس عن أبي إسحاق عن حارثة بن مُضَرِّب عن عليّ به.
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن عليّ إلا حارثة بن مضرب، ولا نعلم رواه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا عليّ”
وقال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات” المجمع 6/ 58
قلت: أبو إسحاق مدلس وقد عنعن.
وله شاهد آخر مرسل أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 382) عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن خالد الحَذَّاء عن عكرمة أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال يوم بدر “من لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله فإنهم أخرجوا كرها” رواته ثقات
[2] الفقه الإسلامي وأدلته 8/ 6209.