صفات الغلاة والمتطرفين:
ولهذا نجد الغلاة قد اتصفوا بكل ما هو قبيح فهم يترنحون بين جهل فاضح وبغي صارخ واضح.
التمرد والتفرد

والمسلك الغالي يجلب حظوظاً للنفس وظهوراً على الآخرين، إذ طبيعة النفوس حب الرياسة، فتميل إلى التفرّد والتمايز عن عموم الخلائق، سواءً في المطاعم والمشارب والملابس والمراكب، أو الآراء والديانات والعبادات([1]).
والغلاة يصاحبهم الغرور، ويلازمهم الإعجاب بأنفسهم، والاعتداد بآرائهم، كما وضّحه ابن الوزير رحمه الله بقوله: “الغالب على أهل البدع شدة العُجب بنفوسهم، وهي من عجائب العقوبات الربانية، وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات، ودليل العقوبة أنك ترى أهل الضلال أشد عُجباً وتهليكاً للناس، واستحقاراً لهم” [2] هذا الغرور واحتقار عامة المسلمين جلب للغلاة (كهنوت) الوصاية على الآخرين، وحقوق الامتحان والتنقيب عما في الصدور، والاستعراض للمخالفين! كما كان على ذلك الخوارج ومن شابههم.
قال ابن سيرين رحمه الله: “سؤال الرجل أخاه أمؤمن أنت؟ محنة بدعة كما يمتحن الخوارج”[3].
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزل (ت 281هـ): “الامتحان دين الخوارج”[4].
الخصومة والجدل
ثم إن الإعجاب بالرأي لدى الغلاة أوقعهم في التعصب والخصومة والجدال وكثرة السؤال.. وقد وصف المبرّدُ الخوارجَ فقال: “كان في جملة الخوارج لددٌ -جدال- واحتجاج على كثرة خطبائهم وشعرائهم” [5]، وكان نافع بن الأزرق يأتي ابن عباس فيسائله حتى أملّه، وجعل ابن عباس يظهر الضجر ([6]
الشقاق والنزاع والشرذمة
كما أورثهم شقاقاً ونزاعاً، فالغلاة أكثر الطوائف انقساماً وتشرذماً، وأظهر تبرياً فيما بينهم من سائر الطوائف، فالخوارج مثلاً عشرون فرقة [7]، والفرقة الواحدة كالإباضية انقسمت إلى أكثر من فريق.. وهكذا. فالانقسام صفة لازمة للغلاة كما هو مشاهد في القديم والحديث، فمع أن القوم أشربوا الغلو مع بسالة وإقدام، إلا أن غلوّهم وتفرقهم إلى شيع وأحزاب قد أضعف رأيهم، ومحا أثرهم، فالأزارقة أشد طوائف الخوارج غلواً ظهرت نحو السنة 64هـ، وانقرضت في السنة 77هـ [8].
الاضطراب والتناقض
والنفوس الغالية ليست سويّة ولا مستقرة، فلا يفارقها التردد والاضطراب، ولذا تجمع بين النقيضين، وتقول بالرأيين المتضادين، وهذا ظاهر لمن نظر في مقالات الخوارج مثلاً في كتب الملل والنحل، ومن ذلك أن المعتزلة وعيديةٌ، يقولون بتخليد عصاة الموحدين في جهنم، كما في أصولهم الخمسة، ومنهم طائفة يقال عنها (مرجئة المعتزلة) يرون أن الكفار لا يخلدون في النار![9].
الغي والعدوان
ثم إن الغلو يحرّك في النفوس خمائر البغي والعدوان، وهذا البدار إلى الظلم عجّل باندراسهم وانقراضهم، فالخوارج مثلاً بادروا بالقتال، فقاتلهم أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وقضى عليهم، وكما قال ابن تيمية: “فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه” [10]، وقد أدرك المهلّب بن أبي صفرة هذه الحقيقة، -فقد كانت له صولات وجولات ومعارك ضارية ضد الخوارج خلال عشرين عاماً-، فكان يقول لبنيه: “لا تبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نُصرتم عليهم” [11]
وانحسار العلم وغياب العدل لدى الغلاة، والتحفز والتحسس المفْرِط من مخالفيهم؛ أوقعهم في ردود أفعال، فجملة من آرائهم وليدة مواقف حادة، ونتاج وقائع وحوادث صاغت أقوالهم، وصنعت تقريراتهم.
وأخيراً: فإن الاعتدال أصل الدين وهو بين الغلو والتقصير، وبين الافراط والتفريط وبين الأمن والإياس.
والناظر لأقوال الفرق المبتدعة التي فرقت الأمة واضعفتها وجعلت منها مطمعا لأعدائها يجدها خرجت بسبب الغلو والتقصير.
فالخوارج غلوا في إثبات الأعمال وعدها من الإيمان حتى كفروا المسلمين بمجرد المعصية، وقابلهم المرجئة فغلوا حتى أخرجوا العمل من الإيمان[1].
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
[1] انظر: الاعتصام (1/49، 215-217،)
[2] (إيثار الحق على الخلق) (ص 426) باختصار،
[3] أصول السنة للالكائي (6/988)
[4] السير للذهبي (13/189)
[5] الكامل (2/162)
[6] ينظر: الكامل لابن المبرد (2/168).
[7] انظر:( الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي) ص:72)
[8] انظر الخوارج للسعوي، وآراء الخوارج الكلامية لعمار الطالبي
[9] (ينظر: البداية لابن كثير:11/322)
[10] (الدرء:8/409)
[11] (الكامل لابن المبرّد:2/277).