رفقه ﷺ حتى في الجمادات:
روى البخاري في الصحيح (3583) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ” كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الجِذْعُ، فَأَتَاهُ، فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ”.
وروى البخاري أيضا (3585) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: ” كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ “.
وفي رواية: إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ.[1]
قال بدر الدين العيني رحمه الله:
” قَوْله: (كصوت العِشَار)، جمع: عُشَراء، وَهِي النَّاقة الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا، من يَوْم أُرسل عَلَيْهَا الْفَحْل، عشرَة أشهر.
وَفِي حَدِيث جَابر عِنْد النَّسَائِيّ من الْكُبْرَى: (اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السارية كحنين النَّاقة الحلوج). والحلوج: النَّاقة الَّتِي انتزع مِنْهَا وَلَدهَا.
وَفِي حَدِيث أنس عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (فحنت الْخَشَبَة حنين الوالدة)، وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى عِنْد الدَّارمِيّ: (خار ذَلِك الْجذع كخوار الثور)، وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب عِنْد أَحْمد: (فَلَمَّا جاوزه خار الْجذع حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ) ” انتهى.
وروى ابن ماجة (1415) عَنِ ابْ[2]نِ عَبَّاسٍ، وأَنَسٍ: ” أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ، ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ، فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ.
فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ” وصححه شيخنا الألباني في “صحيح ابن ماجة”.
كم من البشر لم يرتقوا إلى مستوى هذا الجذع. النبي ﷺ لم تحن إليه قلوبُ المؤمنين فحسب، بل حنَّت إليه الجمادات، وحنين الجذع إليه مشهورٌ متواترٌ وقد أفرد له القاضي عياض فصلاً هو الفصل السابع عشر في كتابه ((الشفا)) فقال:
“فهذا الجذع دبت فيه الحياة ودب فيه الإدراك من يوم أن استند عليه رسول الله ﷺ ليخطب في الناس ويتلو آيات الله، فلما سمع الجذع هذا الذكر المبارك كانت الحياة وكان الشفاء، ولما تظهر آثاره إلا يوم أن فارقه رسول الله ﷺ فحن حنين الصبي المشتاق إلى ما يحييه”.
وحنين الجذع شوقًا إلى سماع الذكر وتألمًا لفراق الحبيب الذي كان يخطب إليه واقفًا عليه وهو جماد لا روح له ولا عقل في ظاهر الأمر آية من أعظم الآيات الدالة على نبوة الحبيب ﷺ وصدق رسالته وهي معجزة كبرى على مثلها آمن البشر لعجزهم على الإتيان بمثلها.[3]
وحقيقة أن للجمادات مشاعر حقيقة ثابتة في القرآن قال تعالى: وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
وقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قال ابن كثير في التفسير (1/ 304)
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ؛ وَهُوَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْحِجَارَةِ كَمَا أُسْنِدَتِ الْإِرَادَةُ إِلَى الْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قَالَ الرَّازِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} وَ {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} الْآيَةَ، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} الْآيَةَ، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} الْآيَةَ، وَفِي الصَّحِيحِ: “هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ”، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ الْمُتَوَاتِرِ خَبَرُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: “إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلِيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ” وَفِي صِفَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
[1] رواه أحمد (14206)
[2] وروى ابن ماجة (1415) وصححه شيخنا الألباني في “صحيح ابن ماجة
[3] مقال حنين الجذع ومنبر النبي بقلم هاني ضوَّه.