النهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير الممتلكات:
ولم يقتصرِ النهي عن الاعتداء على بني البَشر فقط؛ وإنَّما تجاوز ذلك ليشملَ النهي عن الإتلاف، وقطع الشَّجر، وقتْل الحيوانات، وتخريب الممتلكات بغير مصلحة، أو ضرورة تقتضي الإقدامَ على ذلك، وهذا سُموٌّ أخلاقي لم تعرفْ له البشرية مثيلًا في تاريخها قديمًا وحديثًا.
فهذا أبو بكر – رضي الله عنه – لَمَّا بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع، خرج – رضي الله عنه – معه يُوصيه، ويزيد راكب وأبو بكر يَمشي.
فقال يزيد: يا خليفةَ رسول الله، إمَّا أن تركب وإمَّا أن أنزل.
فقال: “ما أنت بنازلٍ، وما أنا براكب، إنِّي أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله.
يا يزيد، إنَّكم ستَقدَمون بلادًا تُؤتَوْن فيها بأصناف من الطعام، فسمُّوا الله على أوَّلِها، واحمدوه على آخرها.
وإنَّكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسَهم في هذه الصوامع، فاتركوهم وما حبسوا له أنفسهم، وستجدون أقوامًا قد اتَّخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعدَ؛ يعني: الشمامسة، فاضربوا تلك الأعناق، ولا تَقتلوا كبيرًا هَرمًا، ولا امرأة، ولا وليدًا.
ولا تُخرِّبوا عمرانًا، ولا تقطعوا شجرة، إلَّا لنفع، ولا تعقرنَّ بهيمةً إلَّا لنفع، ولا تُحرِّقنَّ نخلًا، ولا تُغرقنَّه، ولا تَغدِر، ولا تُمثِّل، ولا تجبن، ولا تغلل، ولينصرن الله مَن ينصره ورسلَه بالغيب، إنَّ الله قويٌّ عزيز
وإنَّ هذا ينسجم تمامًا مع الهدف السامي للحرْب في الإسلام؛ فإنَّها وسيلة لإصلاح الناس وإرشادهم، وإزالة العوائق التي تَحول دونَ اطِّلاعهم على الدِّين الصحيح؛ ولذلك فلا يجوز في دِين الإسلام أن يُقاتل المسلمون رغبةً في التدمير، أو إذلالًا للناس أو تعذيبًا لهم، كما كانت تفعل جيوشُ الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، الذين كانوا يُذلُّون الشُّعوب، ويُدمِّرون كلَّ شيء لأعدائهم؛ مدنَهم ومزارعَهم وحيواناتِهم، منفِّذين في ذلك تعاليمَ كتابهم ـ زعموا ـ الذي جاء يأمرهم بالقتْل والدَّمار.
سادسا: النهي عن المُثْلَة[1] اي تشويه جثث القتلى:
لقد ظهرت رحمته ﷺ في حرصه حتى على عدم تشويه والتمثيل بالقتلى من أعدائه، مراعاة لشرع الله ولمشاعر ذويهم، وصية من وصَايَا رسول الله محمد صلى الله عليه لجنوده وجيوشه في الحرب، فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ”.
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.. الحديث “. رواهُ مسلم (1731).
وعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النُّهْبَةِ[2]، وَالْمُثْلَةِ. [3]
قال الإمامُ الشوكاني في ” النيل ” (8/263): قَوْلُهُ: ” وَلَا تُمَثِّلُوا ” فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ.ا.هـ
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في ” الفتاوى ” (28/314): ” فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَقَدْ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ” مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ حَتَّى الْكُفَّارُ إذَا قَتَلْنَاهُمْ فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا إنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ بِنَا فَنَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا “. وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ” وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ “.ا.هـ.
وعلى الرغم مما حدث في غزوة أحُد من تمثيل المشركين كفار قريش “بـ سيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه” عَمِّ رسول الله محمد ﷺ، فإنه ﷺ لم يُغَيِّر مبدأه، بل حرص على النهي عن المُثلة أي تشوية جثث القتلى حتى مع المشركين، ولم يَرِدْ في التاريخ حادثة واحدة تقول: إن المسلمين مَثَّلوا بِأحدٍ من اعدائه.
[1] قال ابنُ فارس في ” معجم المقاييس في اللغة ” (ص 974) عند مادة ” مثل “: الميمُ والثاءُ واللامُ أصلٌ صحيحٌ يدلُ على مناظرةِ الشيءِ للشيءِ… وقولهم: ” مَثَّل به ” إذا نَكَّل، هو من هذا أيضاً، لأن المعنى فيه أنه إذا نُكِّل بهِ جُعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيعَ أو أراد صنعه، ويقولون: ” مَثَل بالقتيلِ ” جَدَعه “. ا.هـ.
وقال ابنُ الأثير في ” النهاية “: ” يقال: مَثَلْتُ بالحيوان أمْثُل به مَثْلاً، إذا قَطَعْتَ أطرافه وشَوّهْتَ به، ومَثَلْت بالقَتيل، إذا جَدَعْت أنفه، أو أذُنَه، أو مَذاكِيرَه، أو شيئاً من أطرافِه. والاسم: المُثْلة. فأمَّا مَثَّل، بالتشديد، فهو للمبالَغة. ومنه الحديث ” نَهى أن يُمَثّلَ بالدَّواب ” أي تُنْصَب فترْمَى، أو تُقْطَع أطرافُها وهي حَيَّة “. ا.هـ.
فالمُثْلةُ فصلُ أي عضوٍ من الجثةِ ويدخل في ذلك فصلُ رؤوسِ بعضِ القتلى، وإرسالها أو العبث بها.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع…
[2] النُّهْبَى: أَيْ أَخْذ مَال الْمُسْلِم قَهْرًا جَهْرًا.