النهي عن قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان والأُجراء والفلاحين في الحرب:
إذا تأمّلْنا وصية رسول الله ﷺ لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا لرد العدوان نجد في طياتها كمال الأخلاق ونُبل المقصد ولعلّ من أبرز أخلاق النبي ﷺ في حروبه خُلق الرحمة؛ فلقد كان رسول الله ﷺ رحيمًا بالطفل الصغير، والشيخ الكبير، والنساء والمرضى والعواجز، جاء في الصَّحيحَين[1] عن نافع: أنَّ عبد الله – رضي الله عنه – أخبرَه: أنَّ امرأةً وُجدت في بعض مغازي النبي – ﷺ – مقتولة، فأنكر رسولُ الله – ﷺ – قتْلَ النِّساء والصِّبيان[2].
وفي لفظ: “فنهى رسول الله – ﷺ – عن قتْلِ النِّساء والصِّبيان”.
ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح: أنَّ رسول الله – ﷺ – خرج في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالدُ بن الوليد، فمرَّ أصحابُ رسول الله – ﷺ – على امرأةٍ مقتولة ممَّا أصابتِ المُقدِّمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويتعجَّبون من خَلقها، حتى لحقهم رسول الله – ﷺ – على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله – ﷺ – فقال: ((ما كانتْ هذه لتقاتِل))، فقال لأحدهم: ((الْحقْ خالدًا فقلْ له: لا تقتلوا ذُريَّة، ولا عسيفًا)).[3]
وقد ذكر المحقِّقون أنَّ هذه الواقعة كانت في غزوة حنين.
ومنها أيضًا: ما رواه مسلم وأبو داود عـن سليمان بن بُريدةَ، عـن أبيه: أنَّ النبي – ﷺ – قال: ((اغزُوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتِلوا مَن كَفَر بالله، اغزوا ولا تَغدِروا، ولا تَغلُّوا ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))[4].
وفي رواية عند البيهقي وغيره: ((ولا تقتلوا وليدًا طِفلًا، ولا امرأةً، ولا شيخًا كبيرًا…))[5].
وفي شرح معاني الآثار للطحاوي بسند صحيح: أنَّ رسول الله – ﷺ – كان إذا بعث جيوشَه قال: ((لا تقتلوا الوِلْدان))، وفي رواية: ((لا تقتلوا شيخًا كبيرًا))، وفي رواية ((لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً))[6]
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: كتب عمر – رضي الله عنه – إلى الأجناد: “لا تقتلوا امرأة ولا صبيًّا”.
ومن وصايا أبي بكر لأمراء الجُند: “لا تقتلوا امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرمًا، ولا تقطعوا شجَرًا مُثمرًا، ولا تُخرِّبُنَّ عامرًا، ولا تَعقرنَّ شاةً ولا بعيرًا إلَّا لمأكلة، ولا تُغرقُنَّ نخلًا ولا تحرقنَّه، ولا تغلل، ولا تجبُن”[7].
وعن يَزيد بن هُرْمُز: أنَّ نجدَةَ كتبَ إلى ابن عبَّاس – رضي الله عنهما – يسأله عن قتْل أطفال المشركين، فكتب إليه ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: “إنَّك كتبتَ إليَّ تسأل عن قتل أطفال المشركين، فإنَّ رسول الله – ﷺ – لم يقتلْهم، وأنت فلا تقتلْهم، إلَّا أن تعلمَ منهم ما عَلِم الخَضِرُ من الغلام حين قتلَه”[8].
فلا يُقتل أحدٌ بذنب غيره، ولا يُؤخذ ابنٌ بجريرة أبيه، أو امرأة بجريرة زوجها، ولا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى، وهذا أسمى معاني العدالة والرَّحمة.
روى النسائي بسند صحيح عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله – ﷺ -: ((لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض، ولا يُؤخذ الرَّجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه))[9]، والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة.
وكان إذا أخطأ المسلمون في حروبهم مع عدُوِّهم، وقتلوا أطفالاً صغارًا، كان ذلك يُغضب رسول الله ﷺ أشدّ الغضب، ومثال ذلك ما رواه الأسود بن سريع رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ بعث سريّةً يوم حنين فقاتلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذُّرِّيّة فلمّا جاءوا قال رسول الله ﷺ: “ما حملكُمْ على قتْلِ الذُّرِّيّةِ؟” قالوا: يا رسول الله، إنّما كانوا أولاد المشركين. قال: “أوهلْ خِيارُكُمْ إِلاّ أوْلادُ الْمُشْرِكِين؟! والّذِي نفْسُ مُحمّدٍ بِيدِهِ ما مِنْ نسمةٍ تُولدُ إِلاّ على الْفِطْرةِ حتّى يُعْرِب عنْها لِسانُها”[10].
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ تَتَرَّسَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَوْ تَحَصَّنُوا بِحِصْنٍ أَوْ سَفِينَةٍ وَجَعَلُوا مَعَهُمُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ وَلَا تحريقهم
أمَّا من الناحية العمليَّة التطبيقيَّة، وعند استقراء السيرة النبوية العطرة فإننا لا نجد فيها حادثة تدل على قتل الأبرياء أو قتلَ ذراري وأطفال المشركين، أو قتْل نِسائهم، أو شيوخهم رغمَ ما تعرَّض له المسلمون من اعتداءات سافرة وعلى الرغم أيضا من كثرة الغزوات، وما حدث من ذلك في واقعة واحدة وقع خطئا من غير توجيه سابق ومن غير قصد وقد انكره ﷺ انكارا شديدا.
وقد جمع العلماءُ أصنافَ الذين لا يجوز قتالهم، أو التعرُّض له بالاعتداء، فذكروا منهم: النِّساء، والأطفال، والرُّهبان ورجال الدِّين، والشُّيوخ كِبار السِّن، والزَّمنْىَ[11]، والعُسفاء – وهم الأجراء والفلاَّحون – ويُشترط في الجميع ألاَّ يشتركوا في القِتال، ولا يُعينون عليه بحال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (2/ 348 – 350): “وللعلماء فيهم صور سِتٌّ:
الأولى: النساء: إن قاتلنَ قُتلنَ، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدَها؛ لعموم قوله – تعالى -: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190]، وقوله – تعالى -: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]، وللمرأة آثارٌ عظيمة في القِتال؛ منها: الإمداد بالأموال، ومنها: التحريض على القتال، وقد يَخرجنَ ناشراتٍ شعورهنَّ، نادباتٍ مثيرات معيِّرات بالفرار، وذلك يُبيح قَتلَهنَّ.
غيرَ أنَّهنَّ إذا حصلن في الأَسْر فالاسترقاق أنفعُ لسرعةِ إسلامهنَّ، ورجوعهنَّ عن أديانهن، وتعذر فرارهنَّ إلى أوطانهن، بخلاف الرَّجل.
الثانية: الصبيان: فلا يُقتلون للنهيِ الثابت عن قتْل الذُّريَّة، ولأنَّه لا تكليفَ عليهم، فإن قاتَلَ الصبيُّ قُتِل.
الثالثة: الرهبان: لا يُقتلون، ولا يُسترقُّون، بل يُترك لهم ما يعيشون به مِن أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهْل الكُفر؛ لقول أبي بكر ليزيد: “وستجد أقوامًا زعموا أنَّهم حبسوا أنفسَهم لله، فذرهم وما زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم له، فإن كانوا مع الكفَّار في الكنائس قُتِلوا”.
الرابعة: الزَّمْنى: الصحيح أن تُعتبر أحوالُهم، فإن كانت فيهم إذايةٌ قُتلوا، وإلَّا تُركوا وما هم بسبيله من الزَّمانة، وصاروا مالًا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ: قال مالك في كتاب محمَّد: “لا يُقتلون، والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخًا كبيرًا لا يُطيق القِتال، ولا يُنتفع به في رأي، ولا مدافعة، فإنَّه لا يُقتل، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة، والثاني: يقتل هو والراهب، والصحيح الأوَّل؛ لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالِفَ له، فثبت أنَّه إجماع، وأيضًا فإنَّه ممَّن لا يقاتل، ولا يُعين العدوَّ، فلا يجوز قتلُه كالمرأة.
السادسة: العسفاء: وهم الأُجراءُ والفلاَّحون، فقال مالك في كتاب محمَّد: لا يُقتلون، وقال الشافعي: يُقتل الفلاَّحون والأجراء والشُّيوخ الكِبار إلَّا أن يُسلِموا، أو يُؤدُّوا الجِزية.
والأوَّل أصحُّ؛ لقوله – عليه السلام – في حديث رباح بن الربيع: ((الْحقْ بخالد بن الوليد، فلا يَقتلنَّ ذريَّة ولا عسيفًا”.
وقال عمر بن الخطاب: “اتقوا الله في الذُّريَّة والفلاَّحين الذين لا ينصبون لكم الحرب”، وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرَّاثًا؛ ذكره ابن المنذر”[12].
وقال ابن قدامة – رحمه الله -: “إنَّ الإمام إذا ظَفِر بالكفَّار، لم يجز أن يقتل صبيًّا لم يبلغ بغير خلاف، وقد روى ابن عمر – رضي الله عنهما -: “أنَّ النبي – ﷺ – نهى عن قتْل النِّساء والصِّبيان”؛ متفق عليه.
ولا تُقتل امرأة ولا شيخٌ فانٍ، وبذلك قال مالك، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أبي بكر الصِّديق، ومجاهد، وروي عن ابن عبَّاس في قوله – تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190]، يقول: لا تقتلوا النِّساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا يُقتل زَمِنٌ، ولا أعمى، ولا راهب، ولا يُقتل العبيد، وبه قال الشافعي؛ لقول النبي – ﷺ -: ((أدركوا خالدًا، فمروه ألاَّ يقتلَ ذريَّة ولا عسيفًا))، وهم العبيد؛ لأنَّهم يَصيرون رقيقًا للمسلمين بنفس السبيِّ، فأشبهوا النِّساء والصِّبيان…”.
ثم قال: “ومَن قاتل ممَّن ذكرنا جميعهم، جاز قتلُه؛ لأنَّ النبي – ﷺ – قتل يومَ قُريظة امرأةً ألقتْ رحى على محمود بن سلمة، ومَن كان من هؤلاءِ الرِّجال المذكورين ذا رأيٍ يُعين به في الحرْب، جاز قتلُه؛ لأنَّ دريدَ بنَ الصمة قُتل يومَ حنين وهو شيخ، لا قتال فيه، وكانوا خرجوا به معهم يتيمَّنون به، ويستعينون برأيه، فلم يُنكرِ النبيُّ – ﷺ – قتلَه، ولأنَّ الرأي من أعظم المعونة في الحرْب.
ثم قال: “أمَّا الفلاَّح الذي لا يُقاتل، فينبغي ألاَّ يُقتلَ؛ لِمَا روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنَّه قال: “اتقوا الله في الفلاَّحين الذين لا يَنصبون لكم الحرب”.
وقال الأوزاعي: “لا يقتل الحرَّاث إذا عُلِم أنَّه ليس من المقاتلة”[12]
والخلاصة:
أنَّه لا يجوز أن يُقصد بالقتال مَن ليسوا بأهل له، كالنِّساء والأطفال والشُّيوخ، والزَّمنى والعُمي والعَجَزة، والذين لا يُباشرونه عادةً كالرُّهبان والفلاَّحين، إلَّا إذا اشترك هؤلاء في القِتال وبدؤوا هم بالاعتداء، فعندها يجوز قتالُهم.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع …
[1] البخاري (3014)، ومسلم (1744(
[2] البخاري (2792)، ومسلم (3280(
[3] أخرجه أحمد (17158)، وأبو داود (2669).
[4] أخرجه مسلم (1731)، وأبو داود (2613).
[5] أخرجه البيهقي في الكبرى (17934).
[6] شرح معاني الآثار للطحاوي (3/ 221).
[7] قال ابن كثير في كتابه إرشاد الفقيه (2/ 320): رُوِيَ هذا عن أبي بكرٍ من وجوه كثيرة
[8] أخرجه مسلم (1812).
[9] أخرجه النسائي (4127)
[10] رواه أحمد (15626)، وعبد الرزاق (20091)، والحاكم (2566)، والضياء في المختارة (1445) وابن زنجويه في (الأموال) (147) والبيهقي في سننه الكبرى (18114)،
ورجاله ثقات رجال الشيخين إلا أن الحسن- وهو البصري- لم يسمع من الأسود بن سريع فيما ذكره على ابن المديني في “العلل” ص59،
قال الحاكم هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (402).
[11] المريض مرضا مزمنا
[12] المغني، لابن قدامة المقدسي، (10/ 530 – 535) بتصرف