النهي عن الوسائل المفضية للعنف والتطرف:
فقد جاءت الشريعة الإسلامية الغراء بكل ما يحفظ النفس المسلمة من التعدي عليها أو إزهاقها وقتلها بغير حق أو ترويعها، كما جعلت ارتكاب ذلك كبيرة من الكبائر تستحق القصاص، وسدّت جميع الطرق الموصلة إلى ذلك، سدًّا للذريعة ودرئا للمفسدة، ودفعا للضر وحسماً لمادة الشر التي قد تفضي إلى القتل والعياذ بالله، ومن ذلك:
النهي عن الإشارة إلى مسلم بسلاح ونحوه سواء كان جادًا أو مازحًا
فعن أبي هريرة رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عن رَسُول اللَّهِ ﷺ قال: (( لا يُشِيرُ أحَدُكُمْ علَى أخِيهِ بالسِّلاحِ، فإنَّه لا يَدْرِي، لَعَلَّ الشَّيْطانَ يَنْزِعُ في يَدِهِ، فَيَقَعُ في حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية لمسلم: قال، قال أبو القاسم ﷺ: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع[1] وإن كان أخاه لأبيه وأمه)).
وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: ((نهى رَسُول اللَّهِ ﷺ أن يُتعاطى السيف مسلولاً)). رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيْثٌ حَسَنٌ.
وفي هذه الأحاديث دلالة على تحريم تعاطي ما يسبب الشر للناس، لا بالسلاح ولا بعصا ولا بغيرهما، وأن الواجب احترام المسلم والحذر من إيصال الشر إليه بالفعل أو القول، ومن ذلك الإشارة بالحديدة أو بالسلاح، ولو مازحًا، لأن الشيطان قد ينزغ بيده ويزين له ضرب أخيه، أو ينزع السلاح من يده فيقع من غير اختياره فيضر أخاه، ويروى ينزغ وينزع، والمعنى أنه قد يفعل الشيطان ما يسبب سقوطها من يده حتى تقع على أخيه.
هذا التوجيه النبوي العظيم يحث على ترك ما يُفضي إلى العنف والمحظور، وإن لم يكن المحظور محققًا، وعلى تحريم تعاطي كل ما يسبب شرً للناس سواء كان ذلك في جدّ أو هزل، وأن الواجب احترام المسلم والحذر من إيصال الشر إليه بالفعل أو القول، ومن ذلك الإشارة بالحديدة أو بالسلاح، ولو مازحًا
فقوله ﷺ: (لا يشيرُ أحدكم على أخيه بالسلاح) هذا نفي بمعنى النهي -وهو أبلغ من النهي-، أي لا تجوز الإشارة على المسلم بالسلاح مطلقا.
ثم عقّب بذكر علة ذلك فقال: (فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزِعُ -وفي رواية: ينزِغُ- في يده، فيقع في حفرة من النار) أي قد يقصد الإنسان المزاح مع أخيه عندما يشير إليه بسلاحه، فيرمي الشيطان في يده فيحقق ضربته فيقتل أخاه أو يجرحه، وعندها يكون قد ارتكب الإثم الذي يجعله يقع في حفرة من النار، يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
“المراد أنه يغري بينهم حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه، فيحقق الشيطان ضربته له”.
وفي الرواية الأخرى: (من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) فيه تأكيد حرمة المسلم والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه، يقول الإمام النوويّ في شرحه على صحيح مسلم: “هذا مبالغة في إيضاح عُموم النهي في كلِّ أحدٍ، سواء من يُتَّهم فيه ومن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأن ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرح به في الرواية الأخرى
وفي الحديث الأخير: أنه ﷺ نهى عن تعاطي السيف مسلولًا، إذا أراد يناوله أخاه يضعه في جفيره ثم يناوله إياه، لأنه قد يناوله إياه ويسقط بينهما، يسقط من هذا أو من هذا فيضر أحدهما، فإذا أراد يناوله إياه يجفره ثم يعطيه إياه، وهكذا أشباهها مما يضر.
ما يفعله بعض الناس في عصرنا الحاضر، من استخدام وسائل شتى في المزاح كأن يأتي بالسيارة مسرعا نحو شخص -واقف أو جالس أو مضطجع- موهم اياه أنه سوف يدهسه فإذا ما اقترب منه توقف؛ وكثيرا لا يتحكم السائق في السيارة، فيقع المحظور، أو يغري كلبه به، كأن يكون عنده كلب ويأتيه آخر يزوره أو نحو ذلك، فيشري الكلب به يغريه به، فإنه ربما ينطلق الكلب فيؤذي هذا الرجل أو يجرحه، ولا يتمكن صاحبه من فضه بعد ذلك.
والخلاصة
أن الأنسان منهي عن فعل جميع أسباب الهلاك، سواء أكان جادًّا أم لاعبا
وقد سَدَّ الشَّرعُ ذَرائعَ الشَّيطانِ ومَداخِلَه التي يَترصَّدُ منها للنَّاسِ ليُفْسِدَ بينهم ويُوقِعَ الشرَّ فيهم.
النهي عن الغضب
ومن جملة ما نهى عنه ﷺ من الأمور المفضية للعنف والغضب الذي هو بمثابة الشرارة الأولى لكل شر وفتنة فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي ﷺ: أوصني، قال: ((لا تغضب))، فردد مرارًا، قال: ((لا تغضب))؛ رواه البخاري.
هذا حديث عظيم، وهو من جوامع الكلم؛ لأنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، ويتضمن دفع أكثر شرور الإنسان، فإذا اجتنبه يدفع عنه نصف الشر، بل أكثر.
ونقل ابن حجر – رحمه الله – عن بعضهم قال: تفكرت فيما قال – أي قول النبي ﷺ: ((لا تغضب)) – فإذا الغضب يجمع الشر كله.
وقد مدح النبي ﷺ الذي يملك نفسه عند الغضب، فقال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ليس الشديدُ بالصُّرَعةِ، إنما الشديد الذي يملِكُ نفسه عند الغضب)).
وهذا الحديث ذكره الإمام النووي -رحمه الله- في باب الصبر؛ لأن الإنسان حينما يحتدم الحنق في قلبه، ويمتلئ غيظاً وغضباً فإن السيطرة على النفس عند ذلك وكبح جماحها عن التعدي يحتاج إلى صبر عظيم، ولهذا قال النبي ﷺ: ليس الشديد يعني: ليس الإنسان الشديد هو الشديد بالصُّرَعة، والمقصود بالصُّرَعة أي: الذي يصرع الناس كثيراً، فهو إنسان قوي يصرع الناس كثيراً، وإنما الشديد حقيقة والذي ينبغي أن تلتفت الأنظار إلى قوته وشدته هو من يملك نفسه عند الغضب، فمسألة الشدة في صرع الناس وغلبتهم بالعضلات المفتولة أمر يحصل للإنسان، ولربما حصل أيضاً لغيره من الحيوانات، ولكن هذا الإنسان الذي قد امتد بدنه وانفتلت عضلاته لربما يكون كالطفل الصغير إذا غضب، فيخرج عن طوره ويفقد سيطرته على نفسه، فيتكلم بما لا يعي ولا يعقل، ويطلق امرأته، ويسب نفسه، وإذا ذُكّر بذلك بعد هذا لم يتفطن لشيء من ذلك إطلاقاً، ثم يندم على تصرفاته التي صدرت منه.
فالشديد القوي الذي يتحكم بغضبه وانفعالاته ويكظم غيظه وقال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134].
وعن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه: أن رسول الله ﷺ قال: ((من كظم غيظًا – وهو يستطيع أن ينفذه – دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي الحور العِين شاء))[2].
وقال رجلٌ لرسولِ اللهِ ﷺ دُلَّني على عملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ قال رسولُ اللهِ ﷺ لا تغضَبْ ولك الجنَّةُ[3]
والغضب نزغة من نزغات الشيطان، يقع بسببه من السيئات والمصائب مالا يعلمه إلا الله، ولذلك جاء في الشريعة ذكرُ واسع لهذا الخلق الذميم، وورد في السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحدّ من آثاره، فمن ذلك:
1- الاستعاذة بالله من الشيطان:
عن سليمان بن صرد قال: كنت جالساً مع النبي ﷺ، ورجلان يستبّان، فأحدهما احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه (عروق من العنق) فقال النبي ﷺ: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد[4].
قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
2- السكوت: قال رسول الله ﷺ: (إذا غضب أحدكم فليسكت)[5]
وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته، أو سب وشتم – يجلب له عداوة الآخرين. فبالجملة: السكوت هو الحل لتلافي كل ذلك.
3- السكون: قال رسول الله ﷺ: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع).
ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل – كما سيرد بعد قليل – وربما أتلف مالاً ونحوه، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية. قال العلامة الخطابي – رحمه الله – معالم السنن 5/141: (القائم متهيء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي ﷺ إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد. والله أعلم.
4- الوضوء
فعن عطية بن عروة السعدي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)[6]
قال ابن المنذر رحمه الله:
“إن ثبت هذا الحديث فإنما الأمر به ندبا ليسكن الغضب
والحديث وإن كان ضعيفا إلا ان معنى الحديث مقبول وصحيح من جهة الطب؛ لأن الغضب يصاحبه فوران الدم، والماء يطفئ هذه الفورة ويكسر حدتها، ولذلك ما زال الفقهاء يذكرون الوضوء كعلاج للغضب، ولم ينكر ذلك أحد منهم، وقد ذكره أيضا العلامة ابن القيم في كتاب “الوابل الصيب” في فصل: “فيما يقال ويفعل عند الغضب” انتهى. كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع كثيرة، إلا أن ذلك لا يعني تصحيح الحديث، ونسبته إلى النبي ﷺ.
وقال الدكتور محمد نجاتي:
“يشير هذا الحديث إلى حقيقة طبية معروفة، فالماء البارد يهدئ من فورة الدم الناشئة عن الانفعال، كما يساعد على تخفيف حالة التوتر العضلي والعصبي، ولذلك كان الاستحمام يستخدم في الماضي في العلاج النفسي”[7] انتهى.
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
[1] قوله ﷺ: (ينزع) ضبط بالعين المهملة مع كسر الزاي، وبالغين المعجمة مع فتحها ومعناها متقارب. ومعناه بالمهملة: يرمي، وبالمعجمة أيضاً: يرمي ويفسد. وأصل النزع الطعن والفساد
[2] رواه أبو داود في سننه [4777]، والترمذي؛ برقم: [2493])، وحسنه شيخنا الألباني
[3] : الترغيب والترهيب: 3/384
[4] رواه البخاري (3108) ومسلم (2610)
[5] رواه الإمام أحمد المسند 1/329 وصححه شيخنا في صحيح الجامع 693، 4027.
[6] حديث ضعيف، ضعفه النووي رحمه الله في “الخلاصة” (1/122)، وضعفه شيخنا الألباني
[7] “الحديث النبوي وعلم النفس” (ص/122).