العفو الخاص والعام..
العفو صفة من صفات الله -عز وجل-[1] قال تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 98، 99) وصفة من صفات النبي ﷺ ولقد أمر الله تعالى نبيه -ﷺ- بالعفو عن زلات المؤمنين فقال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، وهو أيضًا صفة من صفات عباد الله المتقين قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاء والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 133، 134)، وبين -سبحانه وتعالى- أن العفو أقرب للتقوى فقال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (البقرة: 237)، وبين أن أجر وثواب العفو عليه سبحانه فقال: {فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40)، وبين -سبحانه وتعالى- هذا الأجر الذي وعد به العافين عن الناس فقال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ونِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران: 136).
لذا رغبّ النبي ﷺ اصاحبه في العفو، وحثهم عليه عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»[2].
ولقد كان النبي -ﷺ- عفوًا غفورًا يعفو عن المسيئين، ويتجاوز عن الظالمين، عن عبد الله قال: ” كأَنِّي أنْظُرُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ ويقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. “.[3]
وقد سبق ذكر قصة ذاك الأعرابي الذي تسلل لقتل رسول الله وكيف عفا عنه ﷺ بعدما تمكن منه والاحداث الدالة على عفوه وصفحه ﷺ أكثر من أن تُحصر في هذا الكتاب لكنني سوف اقتصر على ذكر بعضها
بعد فتح مكة أعلن عليه الصلاة والسلام العفو عن عامة أهل مكة، وهم الذين عرفوا فيما بعد بالطلقاء لمنّه ﷺ عليهم فلم يعاقبهم ﷺ عملًا بقوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] فقد روى الترمذي عن أبي بن كعب قال: «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنُرْبِيَنّ عليهم، قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله ﷺ: ” كفوا عن القوم إلا أربعة»[4] فكانت عاقبة ذلك إسلام كثير من هؤلاء الطلقاء.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد)) نحن نعلم من سيرته -ﷺ- في غزوة أحد أنه وقع في حفرة فشج وجهه، وكسرت رباعيته، وسال الدم على وجهه عليه الصلاة والسلام فكأن عائشة ترى أن هذا أمرًا عظيمًا، وأذًى كبيرًا، فتسأله -ﷺ ((يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟)) هل أوذيت أكثر من ذلك؟ هل ابتليت أكثر من ذلك؟ فقال -عليه الصلاة والسلام- فَقَالَ: ((” لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ))، مكان بين الطائف ومكة لما ذهب إلى الطائف، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا عليه، ثم لم يسكتوا عنه بل سلطوا صبيانهم، ونساءهم فرموه بالحجارة من الشوارع فوق الأسطح.((فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ “، قَالَ: ” فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ “، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[5]
[1] قال الغزالي -رحمه الله-: والعفو صفة من صفات الله تعالى، وهو الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهذا الاسم العفو قريب من اسم الغفور لكنه أبلغ منه؛ العفو أبلغ من الغفور؛ فإن الغفران ينبئ عن الستر غفر: ستر، والعفو: ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر أن تستر الشيء غطيته، وهو باق أما محوته فقد أزلته فلم يبق فاسم العفو أبلغ من اسم الغفور
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع…
[2] أخرجه مسلم (2588)
[3] أخرجه البخاري (3477)، ومسلم (1792)
[4] أخرجه الترمذي (3129)، والنسائي في “الكبرى” (11279)، والضياء (1143) وابن حبان (487)، والحاكم 2/358-359 و446
وأخرجه البيهقي في “الدلائل” 3/289 وصححه شيخنا الالباني
[5] أخرجه البخاري 3231 ومسلم 1795