العدل مع الأعداء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126].

لقد كان رسول الله ﷺ في حروبه عادلاً؛ فلا يتجاوز في عقاب المحاربين أو من أرادوا خيانته، مواقفه ﷺ الدالة على ذلك كثيرة؛ منها موقف عجيب مع اليهود الذين دسُّوا له السُّمّ ليقتلوه بعد فتح خيبر! فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما فُتحت خيبر أُهديتْ للنبي ﷺ شاة فيها سُمٌّ، فقال النبي ﷺ: “اجْمعُوا إِليّ منْ كان ها هُنا مِنْ يهُود”. فجُمِعُوا له فقال: “إِنِّي سائِلُكُمْ عنْ شيْءٍ، فهلْ أنْتُمْ صادِقِيّ عنْهُ؟” فقالوا: نعم. قال لهم النبي ﷺ: “منْ أبُوكُمْ؟” قالوا: فلان. فقال: “كذبْتُمْ، بلْ أبُوكُمْ فُلانٌ”. قالوا: صدقْت.
قال: “فهلْ أنْتُمْ صادِقِيّ عنْ شيْءٍ إِنْ سألْتُ عنْهُ؟” فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم: “منْ أهْلُ النّارِ؟” قالوا: نكون فيها يسيرًا ثمّ تخلفونا فيها. فقال النبي ﷺ: “اخْسئُوا فِيها، واللّهِ لا نخْلُفُكُمْ فِيها أبدًا”. ثم قال: “هلْ أنْتُمْ صادِقِيّ عنْ شيْء إِنْ سألْتُكُمْ عنْهُ؟” فقالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: “هلْ جعلْتُمْ فِي هذِهِ الشّاةِ سُمًّا؟” قالوا: نعم. قال: “ما حملكُمْ على ذلِك؟” قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يضرّك[1].
لقد قام رسول الله ﷺ بتحقيقٍ هادئ غير منفعل مع اليهود الذين دبّروا مؤامرة اغتياله، وأقام عليهم الحُجّة حتى اعترفوا بألسنتهم بأنهم دبّروا محاولة القتل، واكتشف رسول الله ﷺ أن هذه المجموعة من اليهود قد أمرت إحدى نساء اليهود لتضع السُّمّ بنفسها في الشاة، ثم تُقدِّمها إلى رسول الله ﷺ، فالرجال هم الذين أمروا، والتي نفذّت الأمر وباشرت الفعل هي المرأة.
ولقد قال الصحابة رضي الله عنهم لرسولنا ﷺ: ألا تقتلها؟! فرفض رسول الله ﷺ؛ لأنها محاولةُ قتلٍ، وليست قتلاً فعلاً، فلا يجوز قتلها! ثم إن رسول الله ﷺ لم يعاقبها، ولا منْ أمرها من اليهود بأي عقابٍ؛ لأنه قبِل حُجّتهُمْ: لو كان كاذبًا استراحوا، ولو كان نبيًّا لم يضرّه! لقد قبِل ﷺ حُجّتهم مع أنّ أحدًا منهم لم يؤمن؛ ممّا يُوضِّح أنهم لم يفعلوا ذلك أملاً في ظهور الحقيقة، ولكن فعلوا ذلك حسدًا من عند أنفسهم، وبُغضًا لرسول الله ﷺ، ومع كل ذلك لم يعاقبهم.
إلاّ أن أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه كان قد أكل مع رسول الله ﷺ من الشاة المسمومة فمات مقتولاً بسُمِّها، فهنا أمر رسولُ الله ﷺ بقتل المرأة قصاصًا، ولم يُقْتل معها أحدٌ من أهل خيبر، يقول القاضي عياض رحمه الله: “لم يقتلها رسول الله ﷺ أولاً حين اطّلع على سُمِّها، وقيل له: اقتُلْها. فقال: “لا”. فلمّا مات بشر بن البراء من ذلك سلّمها لأوليائه، فقتلوها قِصاصًا”[2].
قال ابن الملقن في ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (27/560): كان – عليه السلام – لا ينتقم لنفسه ما لم تنتهك حرمات الله، وكان يصبر على أذى المنافقين واليهود، وقد سحره لبيد بن الأعصم، وناله من ضرر السحر ما لم ينله من ضرر السم في الشاة، ولم يعاقب الذي سحره؛ لأن الله تعالى كان قد ضمن لنبيه أنه لا يناله مكروه، وأن لا يموت حتى يبلغ دينه، ويصدع بتأدية شريعته، وكان معصومًا من ضرر الأعداء، قال تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]
كتبه المشرف العام لمنصة إنسان : الشيخ رائد صبري أبو علفة.
يتبع…
[1] رواه البخاري (2998).
[2] انظر عون المعبود (12/149)