مخاطر وأثار التطرف..
يتهرب صناع القرار في العالم كلّه من تعريف الإرهاب كلما تعلق الأمر بالمعالجات الأمنية والمكافحة العالمية المشتركة، وينطلقون من فرضيّة تبدو خاطئة أو منحازة، وهي أن الإرهاب هو “نبتة شيطانية” زرعها مسمى الإسلام السياسي
مخاطر وأثار التطرف والإرهاب وطرق معالجتها (النفسية، الإجتماعية، الإقتصادية، المعيشية، والسياسية وتأثر الحقوق المدنية):
يتهرب صناع القرار في العالم كلّه من تعريف الإرهاب كلما تعلق الأمر بالمعالجات الأمنية والمكافحة العالمية المشتركة، وينطلقون من فرضيّة تبدو خاطئة أو منحازة، وهي أن الإرهاب هو “نبتة شيطانية” زرعها مسمى الإسلام السياسي في أقطاره المختلفة في العالم الثالث ثم عمل على “تهجيرها” إلى أوروبا وأمريكا مستغلاًّ ثورة الإعلام والإتصال وهوامش الحريات المتاحة في العالم الحر، وقد كشفت أحداث 11 سبتمبر 2001 عن جزء من هذه الحقيقة مما جعل هذه الظاهرة تأخذ بعدًا عالميا تطلَّب تضافر جهود البشرية كلها لاجتثاثه من أصوله وتجفيف منابعه واستئصال شأفته
في اعتقادنا : إن هذه المقاربة منحازة وغير عادلة وغير حكيمة.. لأنها تعطي للإرهاب لونا إيديولوجيا وتحاول إلصاقه جغرافيا وتاريخيا بالعالم الإسلامي، ومن مجمل التحليلات الأمنية التي يقدمها الخبراء عادة في دراساتهم حول هذه الظاهرة المعولمة نفهم أن الحرب على الإرهاب قائمة على تفسير أحادي لنشأته وهو العامل السياسي وربما أضيفت إليه عوامل أخرى منها الفقر والتهميش والإغتراب..، لذلك كان التصدي له قائما على المقاربة الأمنية وحدها وكلتاهما – التحليل والتصدي- إجتزاء مخل بمنهج البحث يفصل الظاهرة عن أسبابها المعقدة، مما يجعل العلاج مبتسرًا ويوسع آثارها ويجعل طرق المعالجة أكثر تعقيدا وكلفة، وأوسع رقعة مما تحاول الجهات الرسمية والأمنية حصرها فيه.
ولأن هذه الورقة تعرض أساسا المخاطر، والأثار، وطرق العلاج، فإننا سوف لن نتناول تفاصيل هذه الظاهرة ونكتفي بالتوصيف العام وتلخيص طرق المعالجة على جميع الصعد
في أية لحظة، بتبرير أنه مجتمع غريب عن نفسية المتطرفين وهو سبب مآسيهم، وأن الوقوف على النقيض من سياساته وتوجهاته..هو السبيل الوحيد للفت انتباه المجتمع لمن يعتقدون أنهم يعيشون فيه غرباء، فاعتقادهم أن فرض منطق التطرف على المجتمع كله أو الإنتقال به من التطرف الفكري إلى الإرهاب المسلح يشبع في أعماقهم مشاعر مكبوتة ناجمة عن غرابة الإنتماء أو إنفصام الذات عن المجتمع أو تعدد الإنتماءات..بالسعي لإثبات الذات عن طريق صنع بطولات منتقمة من الآخر !!
فالعلاقة بين التطرف والإرهاب هي علاقة إحساس نفسي بالغربة ونزوع سلوكي بالقوة، فكل متطرف هو مشروع إرهابي مؤجل بانتظار الظروف الملائمة لشحنه وإيجاد الوسائل المتاحة للإنفجار في وجه المجتمع، وكل ذلك خاضع لمستوى الضغط الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والأمني، لذلك نجد رقعة الإرهاب تتسع كلما ضاقت هوامش الحريات وانقطعت وسائل الإتصال والحوار..والأقرب إلى تفسير هذه العلاقة العكسية بين ارتفاع موجة التطرف وانخفاض مستوى الإتصال بالآخر هو ضيق هوامش الحريات وانحسار دوائر النقاش والحوار، ومردّ ذلك يعود، في نظرنا، إلى ثلاثة أسباب جوهرية لكل سبب تفريعاته وامتداداته وجذوره الكامنة في اللاّشعور..
اعتقاد المتطرف أنه على حق، وأن كل من يخالفه الرأي “عدوّ” له يتربص به الدوائر، ويريد إخراجه من العالم الإفتراضي الذي صنعه لنفسه وآمن به، وهذا السبب يدفعه إلى اعتزال المجتمع نفسيا وفكريا وربما حتى إجتماعيا، ليعيش في عالمه الخاص في مسمى “العزلة الشعورية” أو الإعدام السيكولوجي للآخر.
وثانيها، عجز النخب والمؤسسات الرسمية عن استيعاب وتأطير قطاعات واسعة من المجتمع ضمن أنساق فكرية وثقافية واجتماعية متجانسة تتضامن فيما بينها وتتعاون لتوفر لجميع أفراد المجتمع فضاءات للتعارف والمناقشة والحوار..مما يجعل العناصر الشاذة في المجتمع تتحرك أو تنشط تحت رقابة ذاتية منه تتكفل المؤسسات الرسمية والنخب..بالتربية والتكوين والتأهيل والمتابعة والرعاية ضمن سياسات إنمائية وبرامج علاجية متنوعة يكون المجتمع نفسه طرفا فيها.
وثالثها، اعتماد الأنظمة -التي ابتليت بموجات العنف والإرهاب- كلها تقريبا، الحل السهل، وهو المعالجة الأمنية القائمة على فكرة الإستئصال وقطع الدابر والتخلص من كل “مشبوه” ومحيطة بالتصفية الجسدية على أساس أنه عضو متعفن في جسم مجتمع معافى، ولا سبيل لحماية الدولة والمجتمع من شروره، إلاّ ببتره وإتلافه بالقوة الأمنية والعسكرية، فتوكل الدولة للأجهزة الأمنية وحدها هذه المهمة، لمواجهة الإرهاب بالسلاح والتصفية الجسدية التي نرى ترتيبها يأتي في آخر درجات العلاج وليس أولا.
ما هي المخاطر الكبرى التي يشكلها التطرف والإرهاب؟
أخطر المخاطر يتمثل في غياب الأمن وفقدان السلطة السياسية لهيبتها وتعطيل سيادة القانون، ففي ظل التدافع المادي العنيف بين السلطة القائمة والعناصر المتطرفة والجماعات الإرهابية يصبح المجتمع كله مهددا، وتصيب الفتنة الأقربين والأبعدين والمواطنين والرعايا لقوله عز وجل : “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة” الأنفال:25، فإذا حصل هذا في أي مجتمع أو في أية دولة ولم تهب القوى المجتمعية مع النخب والجهات الرسمية..بتطويقه في المهد اتسعت رقعة الصراع وتوالدت المخاطر التي يمكن أن نسوق منها بعض النماذج على سبيل التذكير، لا الحصر، لأن الإرهاب الفكري أو السياسي أو الإيديولوجي (القائم على عقيدة ما) إذا تحول من مجرد قناعات إلى فعل مادي، فإنه يفرض واقعا استثنائيا على حياة الناس يتخذ عادة أحد شكلين:
إما الشكل الإداري بإعلان حالة الطوارئ لمدة محدودة أو دائمة، تتكيف معها حياة الناس، حيث يصبح العمل بالقانون هو الإستثناء، وتتسع نطاقات ما يعرف بـ “الكل الأمني” الذي يقدم الواجبات على الحقوق..الخ
وإما الشكل الإستخباراتي بتقديم الحل الأمني على الإقتصادي والإجتماعي وقطع الحوار..واستنفار المواطنين لليقظة والتحسيس، وإعادة جدولة الأولويات بما يجعل مكافحة التطرف والإرهاب أولوية وطنية تسخّر لها الدولة كل الإمكانيات وتعبيّء لها جميع الطاقات في مسمى “التعبئة العامة” أو النفير العام لمواجهة هذا الخطر الداهم المهدد لسلامة الأشخاص والممتلكات، وسلب الناس أمنهم نفسيا وسياسيا واجتماعيا.
وإذا كانت حالة التعبئة العامة تمثل أعلى درجة من درجات التحسيس واليقظة مقارنة بحالة الطوارئ في مجال التشريع، إلاّ أن بعض الأنظمة تلجأ إليها حتى لا تعطل العمل بالدستور، وفي الوقت نفسه تهيئ مواطنيها لقبول سياسة الأمر الواقع لإعادة تكييف عملي لعلاقة الحق بالواجب، بمنطق حق القوة الذي يفرض هذا الوضع الطارئ من منطلق أن الحق العام أولوية وطنية وأن فرض السيادة الوطنية مقدم على حقوق الأفراد والحريات الخاصة، فتكون الآثار الناجمة عن هذه الوضعية عديدة ومتنوعة وذات إنعكاسات سلبية على الواقع برمته.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى بعض هذه الآثار المتعدية للدلالة على المخاطر الجسيمة التي يشكلها التطرف والإرهاب على الحقوق والواجبات، بل على مقاصد الشريعة الإسلامية نفسها، حيث يصبح الحديث عن حفظ النفس، والدين، والعرض، والعقل، والمال، وصيانة الحريات الفردية والجماعية حديثا استثنائيا يسبقه الحديث عن حق واحد، هو : الحق في الحياة (أي حفظ النفس من التهديدات الإرهابية) فمع تفاقم موجة العنف والإرهاب تصبح حياة الناس جميعا خاضعة لوضع إستثنائي..
فالحريات كلها يتم تقييدها، وتتعطل معها حركة التنقل للأشخاص والبضائع والأموال والخدمات..وتصبح الرقابة الإدارية والقضائية والأمنية الصارمة قيودا إضافية على الحقوق السياسية والمدنية وعلى الحريات العامة.
تضطرب سوق السلع والخدمات والشغل بسبب تباطؤ الدورة الإقتصادية والتنموية وكساد التجارة وهروب رؤوس الأموال وفساد مناخ الشراكة والأعمال وتتعطل المشاريع الكبرى نتيجة خوف “رأس المال” من المجازفة تحت تهديدات الإرهاب، الذي إذا نجح في تنفيذ تهديد واحد بقتل نفس واحدة يكون قد نجح في زرع الرعب في المجتمع كله، لقوله تعالى : “أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنها قتل الناس جميعا” المائدة : 32، قتلا معنويا بشلّ حركتهم في الحياة وتعطيل أسباب العيش..
تشويه صورة البلد الذي يكثر فيه الحديث عن العنف والإرهاب، أو تنفذ فيه عمليات إرهابية –مهما كانت طبيعتها- فتقلّ حركة الملاحة الجوية والبحرية باتجاهه، ويتناقص عدد السواح، ويتم إدراجه على سلّم التصنيفات الدولية على أنه بلد مخاطر، وتجتهد الدول المدافعة ظاهريا عن حقوق الإنسان والحريات بتحذير رعاياها من إحتمالات عمليات إرهابية..الخ، فينهار اقتصادها وتتفاقم مشكلاتها الإجتماعية والسياسية والتنموية..ويصبح بلدا مهددا بالتفكك.
ذكرنا هذه الأمثلة البارزة الناجمة عن ممارسات الفكر المتطرف والنشاط الإرهابي كآثار مباشرة ناجمة عن المخاطر الظاهرة للعيان ليسهل علينا تصور حجم المشكلات التي تفرضها هذه الظاهرة التي صارت اليوم معوْلمة وعابرة للقارات، وبحاجة إلى تضافر جهود الأسرة الدولية كلها للحد من انتشارها أولا، ثم تقديم المعالجات المتنوعة لها، لإخراجها من منطق “الكل الأمني” إلى منطق التحليل والفحص واقتراح المعالجات الملائمة لكل نوع من أنواع التطرف، وكل شكل من أشكال الإرهاب.
صحيح توجد قواسم مشتركة كثيرة بين التطرف الفكري والإرهاب السلوكي في أبعادها العالمية، لاسيما بعد فرض منطق “الفوضى الخلاقة” وتجربة سياسية “تجفيف المنابع” بالضربات الإستباقية في كل من أفعانستان والعراق، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث تحول العنف والتطرف والإرهاب من صبغته الوطنية (المحلية) إلى امتدادات دولية ليأخذ شكل التنظيم الدولي، ويتطور سلاحه من الأسلحة الفردية إلى أسلحة “التدمير العدمي” وتتسع نطاقاته الجغرافية من بعض الأقطار ليتوسع إلى الكرة الأرضية كلها، فتصبح له تنظيمات هيكلية وشبكات تواصل، وقيادات دولية ومخازن أسلحة..بل وصار يتحدث بصوت مرفوع عن حكومات قائمة ودولة في طريق التأسيس وليس مجرد وجود رافض داخل كيان دولة نافذة..
فمادام العنف قد طور أدواته ووسع جغرافية حركته وانتقل من مرحلة التطرف المحلي إلى طور الإرهاب الدولي، فلا مناص من أن يضطلع المفكرون ومؤسسات المجتمع المدني بمهمة جديدة هي تطوير الفكر الحرّ لمواجهة مدّ موجة العنف العاتية بأساليب متطورة ومتنوعة..تتكافأ مع هذه التطورات الدولية باقتراح مقاربات عملية تسهم في الجهد المشترك لمعالجة الفكر المتطرف وامتداداته الإرهابية في العالم كله.
ومساهمة منا في هذه المقاربة العملية لمعالجة هذه الآفة، نقدم تصورا عاما لطرائق المعالجات المقترحة في ضوء التجارب المنتهجة من بعض الأنظمة التي عانت من هذه الظاهرة، كقاسم مشترك أوسع لمعالجة مخاطر وآثار التطرف والإرهاب، ثم نستعرض نموذجا لصورتها في الجزائر والتصدي لها بين 1992-2012.
ثانيا، المقاربة والعلاج : إن المجتمعات التي تستفحل فيها ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب، وتدوم طويلا حتى تصير حالة إجتماعية مألوفة، هي مجتمعات مهددة بالزوال، أو بالتفكك الإجتماعي والسياسي والإنقسام إلى كيانات صغيرة هشة.. لذلك لابد من تدارك هذا الوضع بالأخذ في الحسبان مسألتين بالغتي الخطورة في فهم طبيعة التطرف، وهما :
أن محاولة التطبيع مع التطرف والعنف والإرهاب هو “تطبيع” مع عدوّ متربص لا يمكن أن يتحول بأية حال إلى صديق، لأنه يقف على “الطرف الآخر” النقيض عن يمينك أو عن شمالك، ولا يقبل أن يلتقي معك في “الوسط” الذي يراه هو انحرافا عن فكره ونقيضا لقناعاته وعدوا تجب محاربته وتقويم إعوجاجه.
إن التطرف الفكري والديني والإيديولوجي، هو اعتقاد راسخ في ضمير معتنقيه، وكل النشاطات العنفية والإرهابية المنبثقة عنهُ هي نتاج طبيعي لأصل “عقيدة التطرف” لذلك فكل محاولة لمعالجة هذه الآثار دون بحث جذورها وكشف أسبابها، هي محاولة لتقويم الظل (الآثار والتداعيات) بدل التركيز على تقويم العود (الأصل والأسباب) والحكمة تقول : “لا يستقيم الظل والعود أعوج”
1. المقاربة النظرية : إذا أخذنا الإطار الزمني في امتدادات العشرين سنة الماضية، في بعدها العالمي، كمرجع للحديث عن تطور هذه الظاهرة، والجهود التي بذلت لمكافحتها، نستطيع أن نستخلص منها دروس التجربة في الجانبين : الإيجابي والسلبي، فيسهل علينا تقويم ما بها من انحراف واقتراح البدائل المكملة للجهد المبذول في الخلاصات التالية :
إن أخطر أنواع العنف والإرهاب هو العنف السياسي المسلح، الذي ينشب بين السلطة والمعارضة حيث يبدأ لفظيا في شكل خطابات حادة من المعارضة تقابلها السلطة السياسية بالتضييق على الحريات العامة والخاصة، وقد تكون السلطة هي البادئة..ثم تتطور إلى أشكال من الإنفلات الأمني لتظهر “جماعات متطرفة” معزولة، تستخدم السلاح أسلوبا تزعم فيه أنها تمارس حقها في الدفاع عن الشرعية المغتصبة أو عن الحقوق المهضومة أو الهوية المسروقة أو استرجاع إرادة الشعب المصادرة..وإذا لم تعالج هذه الانزلاقات في أوانها تطورت إلى أشكال صراع عدمي بقتل النفس، وإتلاف الممتلكات، وزعزعة الإستقرار، وانتشار الفوضى، وانتهاك الحرمات..ودخول البلد كله في الفوضى والجنون.
إن التطرف يبدأ بفكرة رفض الآخر باعتقاد الأفضلية أو الخيرية أو العنصرية..أو التفوق الذاتي بالإحساس بمركب الإستعلاء، ثم يبحث له أصحابه –بعد ذلك- عن منافذ لكسب الأنصار، وعادة ما
يركزون على ثقافة التفتيت والتقسيم والتجزئة..بنشر الحقد و”كره الأخر” بدل زراعة ما يرغبون هم فيه، فبرامج التعليم والتعبئة والشحن عندهم قائمة على مفردات “هدم الآخر” لأنه عدو مشترك في نظرهم، ثم التفكير بعد ذلك في “بناء الذات” فإذا وجدوا في الواقع ما يؤيد نظريتهم ويعزز توجهاتهم ضخموا أخطاء الخصم وصنعوا من عناصرهم نماذج للبطولة ورموزا للإستعلاء والفدائية، فتحولت أوكارهم إلى ملاذ للمهمشين والمظلومين والمنبوذين..وكل من يبحث عن فرصة لإثبات الذات وفرض الوجود وإلحاق أكبر ضرر بالعدوّ المفترض.
إن الإرهاب الذي كان لصيقا بالجماعات الهامشية وبالمنبوذين إجتماعيا وبالذين رمت بهم الظروف الإقتصادية خارج مضمار الكرامة الإنسانية..قد توسعت دوائره ليصير “إرهابا بورجوازيا” يقوده أمراء أثرياء، ويمتلك مؤسسات وشركات ومقاولات وله استثمارات وأرصدة وصناعات حربية (محلية أو مستوردة) ويتقاضى المتطوعون في معسكراته رواتب محترمة ويتمتعون بنظام خدمة يشبه أنظمة الجيوش الإحترافية، وشبكة علاقات استخباراتية دولية، وربما كان له مستشاورن في بعض أجهزة الحكم لبعض الأنظمة المخترقة..لذلك لم تعد الحروب التقليدية مجدية في التصدي له بما يمتلك من عدة فنية وعتاد عسكري وتدريبات فدائية ميدانية عالية الجودة دقيقة الخبرة رفيعة المستوى، فوق كون جماعات العنف والإرهاب تعتمد عادة أساليب حرب العصابات وتعتمد على المتطوعين من “الإنتحاريين” ممن يسمونهم “الفدائيين” الذين يتحولون إلى “أحزمة ناسفة” وقنابل موقوته ويستهدفون الإثارة الإعلامية التي تبدأ بفرقعة في نقاط حساسة للفت إنتباه الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي..وتنتهي بتجنيد المزيد من المغامرين، فلا تنفع في صدهم عن “عقيدتهم” جهود قوى الأمن وحدها ولا توهن العمليات النوعية عزائمهم، ولو فقدوا العشرات من عناصرهم، لأن أعدادهم تتزايد. كلما زاد الظلم عليهم في نظر بعض هواة البطولات.
وأخيرا، هناك ظاهرة جديدة طرأت على الرأي العام غير الرسمي في العالم كله، ربما بسبب سياسة الكيل بمكيالين، وهي زيادة نسبة تعاطف الشباب، في العالم كله، مع التطرف وارتفاع أسهم الأحزاب اليمينية المتطرفة في الإنتخابات، وجنوح كثير من شباب العالم نحو الأفكار المتطرفة والتنظيمات الإحتجاجية العنيفة ضد أنظمتها التي تمارس عليها سياسة الغلق والتهميش، أو تطبق عليها نظام حماية إجتماعية غير عادل وغير منصف..وقد غذت هذه السياسات المستبدة توجهات الجماعات الإرهابية ضد السياسات المتراجعة عن المكاسب الإجتماعية مما ساهم في تغذية الحركات المتطرفة، وغذَّى العداوة بين كثير من الأنظمة وقطاعات واسعة من شعوبها، ثم ساهمت بعض المؤسسات المروجة للجنس، والسلاح، والمخدرات..في تأجيج هذه النيران ليسهل عليها “تسويق” سلعها في أجواء التوتر والأزمات والحروب الأهلية..مما شجع بعض الشعوب على الثورة ضد أنظمتها في بدايات كانت ذات أبعاد إصلاحية ثم تم حرفها عن أهدافها النبيلة لتأخذ مسارات عنيفة تطرفت وأدخلت في رواقات الإرهاب ووجدت نفسها في مأزق التطرف والتطرف المضاد الذي سهل القابلية للتدخل الخارجي الذي كان فرصة للبعض للتدريب والتسليح و”الهيكلة” خارج الأطر النظامية والحصول على السلاح المتطور الذي يهدد السلام والأمن العالمييْن.
ليس صوابا أن يخلع الرأي العام عباءة الإسلام على المتطرفين فيصفهم بالإرهاب الإسلامي، أو التطرف الديني، أو “الدولة الإسلامية”..أو أي صفة لصيقة بالإسلام، فذلك يضفي عليهم غطاءا للتعاطف ممن لا يفرقون بين الجهاد المشروع والإرهاب المنبوذ، أو بين المقاومة المسلحة لتحرير الأرض وحماية الأوطان والدفاع عن القضايا العادلة، كما هو الحال في فلسطين مثلا، وبين استخدام السلاح الأعمى في الحروب الأهلية تحت أية ذريعة، فالحق الصريح لا يتواجه مع الحق الصريح، إلاّ إذا نشب صراع ظرفي بين طائفتين اقتتلتا تأويلا لنص محكم بشروط صارمة يدرجها القرآن الكريم تحت مسمى: “البغي” ويدعو إلى التعاون على مقاتلة الطرف الباغي ليثوب إلى الرشد: “فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله” الحجرات:09، مما يعني أن إحدى الطائفين كانت تقاتل الأخرى وهي باغية وزائغة عن الحق.
ثالثا، المعالجات الشاملة : (المأساة الوطنية في الجزئر : نموذجا) ، كل ما سبق بيانه كان إطارا فكريا نظريا لمخاطر وآثار العنف والتطرف، ونأتي الآن لعرض خلاصات المعالجات الشاملة لبعض البلدان التي عانت ويلات العنف والتطرف والإرهاب، ونستعرض مسمى “المأساة الوطنية” التي حصلت في الجزائر بين سنوات 1992-2012، ومازالت بعض “الجيوب” تتحرك في أماكن معزولة لم يتم تطهيرها نهائيا، مما صار يعرف باسم : الخلايا النائمة التي تقوم ببعض العمليات الإرهابية بين الفينة والأخرى للتذكير بوجودها، وتحاول أن توجد لنفسها غطاء يضفي عليها شرعية ما تقوم به من إجرام في حق الإنسانية، بإعلان إنتمائها لمنظمات إرهابية لها امتدادات إقليمية ودولية، لاسيما بعد الحرب على العراق وأفغانستان، وما يحدث اليوم في ليبيا وسوريا واليمن والصومال..وسواها..والتوترات الحاصلة في مالي والساحل وامتداداتها في النيجر ونيجريا..وعلى الضفة الأخرى من المتوسط.
فما الذي حدث في الجزائر؟ وكيف تمت المعالجات؟
إن الحصيلة الدموية من الأرواح التي سقطت خلال عشرين عاما في الجزائر بين سنوات 1992-2012، تكفي دليلا على ضراوة ما حدث، فسقوط أزيد من 100 ألف قتيل عدا المعطوبين والمفقودين والمهاجرين قصْرا هروبا من جحيم القتل العدمي، دون الحديث عن المنشآت المحطمة والمؤسسات التي تم حرقها وإتلافها والتنمية التي تعطلت والصورة التي شوهت..كل ذلك كان بحاجة إلى معالجات واسعة ومتنوعة تمس مكونات العنف ودوافع الإرهاب كلها مسّا مباشرا بتعاون جميع القوى الوطنية وبمساهمات أهل الفكر والرأي والدعوة والمحاججة الشرعية من داخل الوطن وخارجه.
وقد مرت هذه المعالجات بثلاث محطات متكاملة ومترابطة ومتدرجة في الزمن، تضافرت فيها جهود جبارة وحشدت لها الأمة كل طاقاتها، لتصل إلى نهايات موفقة صنعت تجربة ثرية جديرة بالدراسة واستخلاص النتائج مع مراعاة خصوصية كل قطر بشعار : “لكل بلد إرهابه” لأن دوافع العنف الأولى ليست واحدة ومغذياتها تختلف من بلد لآخر..
وهي الخطوة الأولى التي بادر بها رئيس الجمهورية السيد اليمين زروال سنة 1995 تحت عنوان : “قانون الرحمة” الذي تعزز بأمر رئاسي رقم 95-15، مؤرخ في 25 رمضان 1415هـ الموافق 25 فبراير 1995 المتعلق بتدابير الرحمة، المتضمن 12 مادة قانونية تكرس ثلاثة إجراءات شجاعة :
تفتح الباب أمام من يقبل الحوار من حملة السلاح،
تسقط العقوبة عن بعض الفئآت المتورطة في أعمال العنف، وتبدي حسن النية بإطلاق سراح بعض قادة العمل السياسي لتحريك الحوار مع الجماعات المسلحة، والسعي لوقف العمل المسلح،
تسنّ قانونا يفتح الباب أمام كل راغب في وضع السلاح والعودة إلى بيته دون متابعات قضائية ممن يسلمون أنفسهم تلقائيا للسلطات المختصة.
وبالموازاة مع ذلك سعى العلماء والدعاة وذوو التأثير في الرأي العام بما كان لهم من أرصدة علمية وزاد شرعي وعلاقات مع أسر الضالعين في العمل المسلح لإقناع أبنائهم وذويهم بمد أيديهم إلى دولتهم التي بادرت بمد يدها لأبنائها، فكان من نتائج هذه المبادرة التي امتدت 04 سنوات 1995-1999 أن أعلن فصيل كامل من المسلحين الذين كانوا يمثلون الجناح المسلح للجبهة الإسلامية للإنقاذ (المسمى الجيش الإسلامي للإنقاذ) من وضع السلاح والدخول في هدنة من طرف واحد، مع النظام، مما خلخل البنية التنظيمية لبقية الفصائل المسلحة وخفف من الضغط على المواطنين وأعطى أملاً في بجنّب الحرب الأهلية وتلافي ما هو أخطر. (ملحق الأمرية المتضمنة تدابير قانون الرحمة).
وهذه أكبر انجازات الحوار المتعدد الأطراف بين الجماعات المسلحة وقوى المجتمع من جهة وبينهم وبين ممثلي الدولة المدنيين والعسكريين من جهة أخرى، بالتوازي مع وضع تشريعات قانونية أوجدت للمغرر بهم منافذ مشرفة لمراجعة النفس والتخلي عن السلاح !؟! لكن هذه الخطوة بمقدار ما جلبت من خير فإنها استفزت فصائل أخرى مسلحة فأسرفت في القتل وتنافست على ابتداع أساليب مروّعة في نشر الرعب بين الناس، وإطلاق أسماء مرعبة على مجموعات الإقتحام والتفجير والقتل العشوائي..كالجماعة الإسلامية المسلحة، والموقعون بالدم، وكتائب الأهوال، والقيامة، والموت..وسواها.
وهي الخطوة الثانية، التي بادر بها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، فور انتخابه رئيسا لعهدة أولى، فقد وعد في حملته الإنتخابية في أبريل 1999، بأن “يطفيء نار الفتنة” وبالفعل، فقد بادر بالإعلان عن إجراء موسع سماه “الوئام المدني” استفتى بشأنه الشعب الجزائري، فكان التصويت مذهلا تجاوز سقف 98%من الأصوات المؤيدة للمسعى، مما شجع القيادة السياسية على توسيع مسمى قانون الرحمة ليشمل قطاعات واسعة من “ضحايا المأساة الوطنية” ويعمل –بالموازاة مع الإجراءات التشريعية والقانونية- على فتح أبواب الحوار مع المتورطين في أفعال العنف والإرهاب، ويستعين بجميع القادرين على محاورة تيارات العنف وحملة السلاح والمغرر بهم، وتشكلت حكومة موسعة جمعت –لأول مرة- في تشكيلتها الإسلاميين والوطنيين والعلمانيين، وتعاونت جميع القوى الوطنية على تنفيذ ما جاء في “قانون الوئام المدني الجزائري” رقم 99-08 المؤرخ في 29 ربيع الأول 1420هـ الموافق 13 يوليو 1999، في الشق الإجتماعي والأمني، وفي أبعاده النفسية والشرعية وما يتعلق بمعيشة هؤلاء ووضع أبنائهم وأسرهم..مع إرجاء المسائل السياسية إلى حين.
لقد كانت الجراح مفتوحة، وكانت أسر المفقودين –الذين قدر عددهم بحوالي 7000 مفقود- تطالب بكشف الحقيقة، كما طالبت بعض الأسر بتعويضات عادلة ومتساوية بين المقتولين جميعا من قوات الأمن والجيش والدرك والدفاع الذاتي..ومن حملة السلاح على قدم المساواة!! كونهم جميعا أبناء الجزائر وكلهم ضحايا “المأساة الوطنية” وقد شكّل هذا المطلب نقطة حرج صعبة كانت بحاجة إلى بعض الوقت لتأخذ طريقها إلى التنفيذ (قانون الوئام المدني ملحق).
ويمكن القول : إن هذه المرحلة التي امتدت 06 سنوات 1999-2005 قد حلحلت كثيرا من العقبات، وصار النقاش – الذي كان محظورا – مقبولا بين أبناء الجزائر، ولكن الأمر كان بحاجة إلى جرعة أكثر تركيزا تستغرق جوانب أخرى نفسية واجتماعية واقتصادية وشرعية، مع استصحاب البعد السياسي الذي كانت السلطة مصرة على استبعاده نهائيا من النقاش بحجة ضعف الرأي العام المحلي الرافض لعودة الحزب الذي تسبب وحده، في نظر السلطة، في المأساة الوطنية إلى النشاط السياسي خوفا من العودة إلى مربع العنف والتطرف والإرهاب
ج- مرحلة المصارحة والمصالحة :وهي الخطوة الثالثة التي احتاجت إلى استفتاء شعبي عام، للذهاب إلى مصالحة وطنية
يتم خلالها طيّ ملف الصراع بين أبناء الوطن الواحد ويتنازل كل طرف عن جزء من حقة من أجل الجزائر ومن أجل تأمين وحماية مستقبل الأجيال، على أن ترافق هذه المصالحة إجراءات تنفيذية تعوض الضحايا جميعا بما يجبر الخواطر ويبعد الأحقاد ويشيع في المجتمع روح التسامح والتنازل.
ومع أن المصارحة لم تأخذ حقها الكامل بسبب حرج الكشف عن حقيقة قتل كثير من الضحايا وبسبب الضغط العالي المتعاكس الذي كانت تمارسه أسر الضحايا من جهة وأسر المفقودين من جهة أخرى، لمعرفة الحقيقة، فقد كانت كثير من الأمور غامضة إلاّ في حدود الإعتراف الضمني بالخطأ في حق الدين والدولة والوطن والتاريخ، واتخاذ بعض التدابير المتعلقة بإعادة دفن الجثث أو تحديد أماكن قبورها..فطول مدة الصراع وحجم الخسائر البشرية والتخلف الإقتصادي والتنموي والتشويه الذي لحق الإسلام وصورة الجزائر في الخارج، عقدت الوضع وجعلت له تداعيات خطيرة، بيْد أن الجهود الفكرية والدعوية والحوار المباشر مع هؤلاء، والأدوار الرائدة التي لعبها العلماء والدعاة والمفكرين ووسائل الإعلام..كلها كانت عوامل مساعدة على إنجاح مسعى المصالحة الوطنية وتهدئة الأوضاع، كما إضطلع علماء النفس والإجتماع وكثير من جمعيات المجتمع المدني بأدوار مكملة للجهود الرسمية، فما أن حلت سنة 2012 حتى شاعت روح التسامح والتصالح والتنازل بين الناس جميعا، فرفعت حالة الطواؤئ المعلنة منذ عشرين عامًا، وأخذت الحياة العادية تأخذ طريقها إلى التطبيع مع الواقع الجديد الذي تكفل تنفيذ ميثاق السلم والمصالحة الوطنية برد كثير من الحقوق الإجتماعية والمدنية إلى اصحابها بالتزامن مع حركية سياسية ومجتمعية ساهمت في العودة التدريجية إلى طبيعة الإستقرار والأمن (ميثاق السلم والمصالحة الوطنية مرفق).
الملاحظات الختامية : أختم هذه الورقة بملاحظتين أراهما جديرتين بالذكر في هذا السياق لنستكمل بهما هذه المقاربة في المعالجات من منظور حيادي لا يهمه إلاّ البحث عن مخرج مشّرف لوضع حرج وقعت فيه الأسرة الدولية كلها، وأخد طابعا عالميا “معوْلما” وعابرا للقارات.
أما الملاحظة الأولى، فخلاصتها أن العنف والتطرف والإرهاب ليس صناعة إسلامية ،كما تريد بعض الأطراف الصاقها بالإسلام أو حصرها في جغرافية العالم الإسلامي والخطاب الإسلامي، بل هو نتاج هجين للنظام العالمي المنحاز بتفوقه التكنولوجي وبامتلاكه لوسائل الردع النووي وبحيازته “حق النقض” لفرض سياسة الأمر الواقع على شعوب العالم الثالث كلها، وفرض وجود قهري للكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، ونعت كل من ينتفض ضد الظلم والطغيان والإحتلال، أو من يقتل فردا واحدا أو يفجّر نفسه في ساحة عامة بالإرهابي، بينما من يمارس الإرهاب الرسمي بجيوش وطائرات وأسلحة محرمة دوليا تسميه ظلما “حق الدفاع عن النفس” !!؟
وهذه سياسة دولية رعناء تنتج التطرف والعنف والإرهاب وتعطي لكل راغب في التدمير حجة قوية ليقتل باسم : حق الدفاع عن النفس، أو عن الهوية أو ضد الغزو الأجنبي لأقطار هي حق لأصحابها وثروات هي ملك لأهلها وعقيدة توجب على معتنقيها نشرها وتأمين الحريات لها وتحطيم الحواجز التي تقف في طريق كرامة الإنسان وحقه في أن يكون حرا كريما.
وأما الملاحظة الثانية، فخلاصتها، أن المعالجات الأمنية للتطرف والعنف والإرهاب..قد أثبتت محدوديتها، ونقلت مسمى “الإرهاب الإسلامي” من دياره المحلية إلى العالم كله كرد فعل عنيف على عنف متوجّس ومتربص بكل ما هو من مظاهر الإسلام ولو كان خمارا فوق رأس امرأة أو منارة يرفع منها الآذان..في مسمى “الإسلاموفوبيا”، ولعل ما يحدث في العالم اليوم منذ اندلعت الحرب الإعلامية المسيئة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في الدانمارك باسم حرية التعبير، وما حدث مؤخرا في فرنسا ينذر بخطر ماحق سوف لن تنجح الخطابات المطمئنة في إقناع من يملك ألف دليل على أن المستهدف في هذه السياسات ليس المتطرفين ولا الإرهابيين..إنما هو الإسلام نفسه الذي أدرك العالم كله أن عدوّه الوحيد هو الإستبداد والدكتاتورية وقمع الحريات..فإذا خُليّ بينه وبين الناس، في أجواء حرّة، آمنوا به واعتنقوه دينًا وحركة في الحياة وصاروا مدافعين عنه باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..وتلك هي نقطة الحرج الكبرى التي لم يجد لها خصوم الإسلام حلاً حتى اليوم: “واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” الصف:08، ” وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ “. يوسف:21.