مناقشة شبهة تكفير أعضاء المجالس البرلمانية تعيينًا:
هذه الفئة يكفرها الغلاة لأنهم في نظرهم أصحاب السيادة الفعلية؛ فهم المشرعون للناس من دون الله، سواء بوضع القوانين أو بإجازتها والموافقة عليها، وتنص جميع الدساتير العلمانية المعاصرة على أنه: (يتولى البرلمان سلطة التشريع)، سواء كان البرلمان يسمى بمجلس الشعب أو الجمعية الوطنية أو الكونجرس أو الجمعية التشريعية أو غير ذلك، وهذا يجعل النواب شركاء مع الله في ربوبيته.
فكل من شرَّع للناس من دون الله كأحبار اليهود ورهبان النصارى ونواب البرلمانات، فقد جعل نفسه ربًّا لهم، وكفى به كفرًا مبينًا، ومن كان من هؤلاء النواب راضيا بهذه الوظيفة الشركية للبرلمانات أو مشاركًا فيها، فهذا كفره ظاهر لا شك فيه؛ لأنه رضي بأن يحتكم إلى آراء البشر حتى وإن ادعى أنه دخل للإصلاح والدعوة، فالوسائل لها أحكام المقاصد في الشريعة الإسلامية ❋.
والرد على هذه الشبهة فيما يلي من الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن هذا النص التكفيري فيه من الأخطاء الفادحة ما لا يخفى على كل ذي عقل رشيد:
- أ – وصف الفئة بأن الشعب يدعونهم من دون الله.
- ب – وصف أعضاء البرلمان بالربوبية، وأنهم شركاء مع الله في ربوبيته.
- ج – كفرهم مبين، ولا شك فيه لأنهم رضوا بأن يكونوا أربابًا من دون الله، تبعًا لرضاهم بهذه الوظيفة الشركية.
- د – احتكامهم إلى القاعدة الأصولية: «الوسائل لها أحكام المقاصد» في غير موضعها.
فهذا النص المحتوي على هذه الأخطاء رمي للناس بالباطل، وفهم سقيم للنصوص وتوجيهاتها، وعارٍ تمامًا عن المنهج العلمي، كما أن صياغته بطريقة مرسلة واضح وهو قائم توهم علمي، وهو القطع بحرمة المشاركة السياسية والمحقق لمسألة يجد أنها من النوازل التي اختلف حولها العلماء والباحثون والدعاة والمفكرون اختلافا كبيرًا وتباينت أقوالهم ما بين قائل بأن الجواز – إن لم يكن الوجوب – هو الحكم الشرعي الصائب والراجح لهذه النازلة وقائل بأنه لا حكم لهذه النازلة إلا المنع والحظر، وقد قال بالجواز علماء كثر منهم الدكتور يوسف القرضاوي ❋ والدكتور عمر الاشقر ❋ والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ❋ والدكتور فتحي يكن ❋ والشيخ حسن البنا ❋ والدكتور عبد الكريم زيدان ❋ والدكتور منير البياني ❋ والدكتور صلاح الصاوي ❋، كما نقل غير واحد من الباحثين القائلين بالجواز فتاوى عن كثير من كبار العلماء المعاصرين تفيد الجواز، كالشيخ محمد الصالح بن عثيمين وغيره، ومعلوم أن الأمة لا تكفر إلا من اتفق على تكفيره.
وقال ابن عبد البر في التمهيد ❋: (فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلًا، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سُنَّةٍ ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السُّنَّةِ والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحدًا لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا أن اتفق الجميع على تكفيره أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة).
ومن ثم فمبدأ التكفير لمجرد أمر لم يتم الاتفاق على تكفيره بين أهل العلم يعد أول زلل منهجي في تكفيرهم لأعضاء المجالس النيابية.
ثانيا: إن هذه المسالة ليست من جملة المسائل العقدية أو الكلية، وإنما هي من مسائل السياسة الشرعية لأنها من مناهج التغيير، وأن ترجيح شرعتيها يتقرر في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهو أمر محل لاختلاف العقول وتباين الأفهام، وتختلف فيه الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأحوال والعوائد، ومن ثم فجعلها من مسائل الاعتقاد تمحل وتكلف لم يقل به أحد عند التأصيل الشرعي، والآن نأتي إلى الرد التفصيلي على الشبهة المذكورة فنقول:
الأمر الأول: أما ادعاؤهم الكاذب بأن الشعب يجعلهم أربابًا من دون الله، فهو وصف للشعب بما ليس فيهم، فإن زمن أنا ربكم الأعلى قد انتهى بغرق فرعون، ولا يجوز أن ننعت أحدًا من المسلمين بأنه يعبد رئيسه أو نائبه في مجلس الشعب، ويتخذه ربًّا؛ فهو كلام غير متصور، وصاحبه فيه واهم، والوهم لا أثر له.
الأمر الثاني: أما وصفهم بأن أعضاء المجالس البرلمانية جعلوا أنفسهم أربابًا للشعب في قولهم: فكل من شرع للناس من دون الله كأحبار اليهود ورهبان النصارى ونواب البرلمانات، فقد جعل نفسه ربًّا لهم
، هو إشارة إلى قوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ
❋ فأجروا ظاهرها على الحاكم، وأيضًا على أعضاء المجالس البرلمانية.
وقد تم تفسير هذه الآية ردًّا على أنها دليل على تكفير الحاكم، وهنا فإن تفسيرها سيكون مقاربًا إلى ما طرقناه من قبل، ولكن لا نقصد به الحاكم ولكن نقصد به أعضاء المجالس البرلمانية، وتفصيل الردود على شبهات الغلاة هو الذي ألجأنا إلى ذلك.
فاستنادًا إلى هذه الآية التي أشار لها الغلاة في تكفيرهم لنواب البرلمان عندما قالوا: فكل من شرع للناس من دون الله كأحبار اليهود ورهبان النصارى ونواب البرلمانات
، فنقول: إن معناها وتفسيرها يرد عليهم بما يأتي:
١ – أن النواب لم يدَّعوا الألوهية، فهذا غير واقع بحال، ولا أدري أي تعليق أعلق به على قول المغالي: فقد جعل نفسه ربًّا لهم
، فهذا لم ولن يحدث، أتركها هكذا بدون تعليق، ولعل نفسك أيها القارئ تحدثك بما تحدثه نفسي الآن من أن الغلاة لا يفقهون حديثًا، ولا يعلمون للعلم طريقًا، ونسأل: هل ثبت أن واحدًا من النواب في أي بقعة من بقاع الأرض حتى لو سكنها كافرون جعل نفسه ربًّا للشعب؟
٢ – إن طاعة النواب تخالف طاعة رب الأرباب، فلا يتصور أن المواطن يطيع نائبه لأنه ربه، فقد وجد من الذين يطيعونه، قد اختلفوا معه ونازعوه في منصبه، ومن الممكن أن يصل الأمر إلى إسقاطه، فلا مساواة بين النائب البرلماني والإله المعبود، فإن المغالي يقول كلامًا هكذا بدون وعي ولا إدراك للبعد العقدي، وهو منهج متخبط، فلو عاد لتفسير الآية لوجد أن اليهود والنصارى أطاعوا الأحبار والرهبان طاعة الرب التي لا تأتي إلا عن اعتقاد وإيمان ❋.
فالمعول عليه الاعتقاد والاستحلال في ربوبيتهم، وهذا لا يتصور في أعضاء البرلمان، لا أدري كيف يجعل ما لا يتصور حقيقة واقعة، أظن أن قلم المغالي الذي كتب هذا الكلام قد استعاذ بالله من شرور كاتبه.
٣ – أجمع المفسرون أن اليهود والنصارى لم يقولوا عن الأحبار والرهبان أنهم أربابًا، فالمغالي شبَّه الشعب بهم دون وعي بالقضية التي تطرحها الآية، فقد أورد ابن الجوزي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – روي عن أنه سئل عن هذه الآية فقال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه
❉، فعلى هذا فإنهم جعلوهم كالأرباب، وإن لم يقولوا إنهم أرباب.
وقال الرازي ❋: الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم
.
أي أن اليهود والنصارى رفضوا حكم الله –تعالى- واستحلوا أشياء وحرموا أشياء مضاهين حكم الله –تعالى-، فإن التحليل والتحريم إنما يكون لله -عز وجل- لا لأحد غيره.
يقول ابن العربي ❋: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، وفيه دليل على أن التحريم والتحليل لله وحده
.
٤ – أن الآية تثبت أن المطيعين للأحبار والرهبان قد تجاوزوا حسن الظن بهم والاطمئنان لعلمهم إلى درجة أخرى فيها مغالاة، جعلتهم يؤثرون كلامهم في التحليل والتحريم على كلام الله ويضاهونهم به ❋. وهذا الفعل يكفر صاحبه لرفضه كلام الله، وقد ثبت من حديث الترمذي أن ذلك وقع منهم من غير عبادة، ولكن كانت عبادتهم للأحبار والرهبان وصفها الحديث بقبول تحليلهم وتحريمهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم ❋.
وعلى ما رأيناه من تفسير الآية نوجه الكلام للغلاة: فلا تشابه بين الشعب واليهود والنصارى في اتخاذهم النواب أربابًا، وذلك لما يأتي:
- ○ أن النواب لم يدعوا أنهم مشرعون من دون الله، والأحبار والرهبان شرعوا من دون الله.
- ○ أن النواب لم يقولوا نحن أرباب من دون الله ولم يجعلوا أنفسهم كذلك، وكذلك الأحبار والرهبان لم يجعلوا أنفسهم أربابًا؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الشعب لم يتخذ النواب أربابًا، وكذلك اليهود والنصارى لم يجعلوهم أربابًا كما قال جمع من المفسرين، وإنما كان التكفير لليهود والنصارى لرفض كلام الله –تعالى- وإيثار كلام الأحبار والرهبان على كلام الله -عز وجل-، وهذا ما لا يمكن أن نشبه به الشعب في علاقتهم مع النواب، فإن الشعب المسلم لا يؤثر كلام النواب على كلام الله -عز وجل-.
- ○ إن وجد تشابه في الأخذ فقط؛ أي أخذ كلام النواب في أمور الدنيا والسياسة، فهذا لا يمكن أن يكون وجه تشابه بين الشعب واليهود والنصارى، فإن الآية تثبت أن اليهود والنصارى رفضوا مجمل حكم الله -عز وجل- الشرعي فضلا عن تحريفهم الكلم عن مواضعه، فلم يتركوا جزءا وإنما بدلوا مجمل ما في التوراة والإنجيل لذلك كفروا، ونحن -ولله الحمد- القرآن الكريم لم يتبدل بفعل النواب، وإن ترك تطبيق شيء منه من غير جحود ولا عناد فهذا ذنب عظيم بمثابة ترك الواجب، ومن ترك الواجب لا يكفر.
- ○ ينبغي الاحتراز في التشبيه بين اليهود والنصارى أحبارًا ورهبانًا وأتباعًا وما صنعوا وبين النواب والشعب وما يصنعون، فهم ليسوا مثلهم بحال، إضافة إلى أن التكفير له أسبابه وضوابطه الشرعية، فإن وجد مانع واحد أو شبهة مانع فيبقى المسلم على الأصل؛ وهو الإسلام.
الأمر الرابع: أن قول المغالي في النص الوارد في أول الشبهة: وكفى به كفرًا مبينًا
، وقوله: هذا كفره ظاهر لا شك فيه
، فإن الكفر الصريح والظاهر والمبين يكون بفعل صريح وظاهر ومبين، كسجود لصنم أو إعلان ديانة غير ديانة الإسلام والدعوة لها، أو ترك كل الشرع أو جزء منه استكبارًا وجحودًا، وهذا ما لم نجده من النواب أو الشعب، فالمغالي يتحدث عن أشخاص غير أمة الإسلام، وإن كان يريد بذلك أمة الإسلام، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإن كان يجهل ضوابط التكفير والتي منها ظهور الكفر الصريح الذي قامت عليه أدلة الكتاب والسنة فهو معذور، وإن كان لا يعرف معنى الكفر البيِّن والظاهر فهو على خطر كبير، وإن اعتقد أن كلامه صواب فهو جهول ومغرور.
الأمر الخامس: قول المغالي: ومن كان من هؤلاء النواب راضيا بهذه الوظيفة الشركية للبرلمانات أو مشاركًا، فيها فهذا كفره ظاهر لا شك فيه، لأنه رضي بأن يحتكم إلى آراء البشر حتى وإن ادعى أنه دخل للإصلاح والدعوة، فالوسائل لها أحكام المقاصد في الشريعة الإسلامية
.
ختم المغالي كلامه المضطرب بقاعدة أصولية: الوسائل لها أحكام المقاصد
❋؛ تدليلا على أن وسيلة دخول البرلمان كالإصلاح يعتبر كفرًا؛ لأن مقصد البرلمان التشريع ومنازعة الباري –سبحانه- في حكمه، ولو طالعت النص كاملا لرأيت معي أن مورده أن البرلمانيين ينازعون المولى تبارك وتعالى في الحكم.. وكلامه هنا مردود من زاويتين:
الزاوية الأولى: الاحتكام إلى قوله تعالى: وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
❋، فهذه الآية حجة على الغلاة في أن العبد عاجز على أن يكون شريكًا لله –سبحانه- أو منازعًا له في حكمه، فالأصل أن العباد أضعف من أن تكون لهم هذه المكانات؛ من تشريع ومنازعة للمولى -تبارك وتعالى- في الحكم، قال الكساني الحنفي: العبد لا يملك إنشاء الحكم من نفسه
❋. وقال الألوسي في تفسير قوله تعالى: وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
: لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عن شأنه هذا
❋.
وقد أحسن ابن القيم عندما فسر الآية فقال ❋: قوله تعالى:
.وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
❋ فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي، ومثال الأول: قوله تعالى: فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
❋، وقوله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
❋، وقوله: إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ❋، وقوله: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ
❋. ومثال حكمه الشرعي قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ
❋، وقوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
❋، فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا، ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين
فإن ابن القيم في هذه العبارات الحسنة قد أفهمنا عجز أي أحد على فعل ما يخص ربنا -تبارك وتعالى-، بل لا يتدخل أحد في حكمه، وآيات الله التي أوردها تؤكد ذلك.
ولا نظن بأن أهل البرلمان مقصدهم منازعة الباري -جل وعلا- والمشاركة في التشريع لعجزهم عن ذلك، وهذا مانع من تكفيرهم، فيبقى الأصل وهو الإسلام قطعًا.
زاوية الثانية:ال أن الإصلاح والدعوة منهجان أتت بهما شرائع الله كلها، فهما ليسا بوسيلتين فحسب، بل منهجين عظيمين كانا من عمل الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، فالمغالي قلب حالهما وجعلهما من وسائل الكفر طبقًا لقاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد.
أنت معي أن المغالي خلط هذا بذاك، وحاول أن يكون لكلامه ثقل علمي فأتى بهذه القاعدة فضلَّ سعيه، وأخطأ هذا الخطأ الفادح.
فمن كان هدفه الإصلاح والدعوة من البرلمانيين فليعنه الله فهذا حاله كما قال الله -عز وجل-: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
❋، أما المقصد الذي في نظر المغالي كفر، فهو بعيد الحدوث يكذبه الواقع، ولا يحدث إلا في مخيلة المغالي بسبب ضيق نظره وأُفُقِهِ.
د. عثمان بن عبدالرحيم القميحي