من أخطر صور الانحراف عن منهاج الوسطية، القول بتكفير أصحاب الكبائر، تلك الفتنة القديمة الجديدة، إذ قالت بها فئة ضالة خرجت على جماعة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، فسماها المسلمون «الخوارج»، وفي الوقت الحاضر تقول بعض الجماعات الإسلامية بتكفير الحكام المسلمين والمجتمعات الإسلامية، وتدعو للخروج عليهم.
الخطبة الأولى
خطر التكفير والإفساد والتفجير:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما يحصل من التفجير في هذه البلاد المباركة التي عظمها الله تعالى ببعثة النبي محمد ﷺ من قلبها، وجعل فيها بيته البيت الحرام وحرم رسوله ﷺ المدينة النبوية، ولا شك أن سبب هذه التفجيرات التكفير من فئة ضالة تكفر المسلمين بالمعاصي، وقد قال النبي ﷺ: أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه
❋ وقال ﷺ: من حلف على ملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال… ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذّب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمناً فهو كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله
❋ وقال ﷺ: ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه
❋ والمعنى رجع عليه قوله، وقال ﷺ: لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك
❋ وهذا كفر دون كفر ما لم يستحله.
ولا يجوز تكفير المسلم إلا إذا تحققت الشروط في كفره وانتفت الموانع، ويكون ذلك من الراسخين في العلم، وقد بين النبي ﷺ أنه يخرج قومٌ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد
❋ وقال عليه الصلاة والسلام: يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم…
❋ وقال ﷺ: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة
❋ ولا شك أن الذي يتولّ قتلهم إمام المسلمين. والتكفير يحصل بسببه آثار مدمرة وفتنٌ مهلكة منها:
- ✺ – الخروج على ولي أمر المسلمين، وفيه مخالفة ظاهرة لقول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ
وقول النبي ﷺ:من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أمري فقد عصاني
❋ وقال عليه الصلاة والسلام:تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع
❋ وقال عليه الصلاة والسلام:من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية
❋ وقال ﷺ:من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية
❋ ولا شك أن طاعة ولاة الأمر واجبة وإن جاروا وإن ظلموا ما داموا لم يأتوا بكفر بواحٍ عندنا من الله فيه برهان، وطاعتهم بالمعروف ما لم يأمروا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. - ✺ – احتقار العلماء وإهانتهم والوقوع في أعراضهم وهذا فيه خطر عظيم، وإفساد ذات البين، وتحريض الرعية على التمرد والعصيان، على ولاة الأمر: من العلماء والأمراء والحكام؛ ولهذا قال بعض الناس بحضرة أبي بكرة رضي الله عنه:
انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق
فقال أبو بكرة رضي الله عنه:اسكت سمعت رسول الله ﷺ يقول:
من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله
❋ ولفظ الإمام أحمد رحمه الله بدون ذكر القصةمن أكرم سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أهانه الله يوم القيامة
❋، ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله:لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم
ويذكر عن ابن عساكر رحمه الله أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، فمن أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. نسأل الله العفو والعافية. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:قال رسول الله ﷺ:
إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط
❋. - ✺ – تَصدُّرِ أهل الجهل والضلال للإفتاء بغير علم، وقد قال الله تعالى:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
تعالى وقال موجباً سؤال أهل العلم عما أشكلفَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
. - ✺ – قتل الأنفس المسلمة المعصومة، وقد حذر الله تعالى عن ذلك فقال:
ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً
. - ✺ – الإفساد في الأرض، قال الله تعالى:
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا
وقال تعالى:وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ
. - ✺ – ترويع المسلمين؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
قال أبو القاسم ﷺ: من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه
❋ وعنه رضي الله عنه قال:قال رسول الله ﷺ: لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينـزغ في يده فيقع في حفرة من النار
❋. وثبت عن النبي ﷺ أنه قال:لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلماً
❋. - ✺ – قتل الإنسان نفسه بالتفجير أو بغيره، لقول الله تعالى:
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
؛ ولقول النبي ﷺ:ومن قتل نفسه في الدنيا بشيء عذب به يوم القيامة…
وقال ﷺ:من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأُ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سُمّاً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبلٍ وقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً
❋. - ✺ – إتلاف الأموال والممتلكات العامة، وإهلاك الحرث والنسل، وهذا فيه فساد كبير، وذنب عظيم، لقول النبي ﷺ:
إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا
❋ وفي حديث صحيح آخر:كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه
❋. - ✺ – قتل المعاهدين، والمستأمنين؛ فإن الكفار أربعة أقسام:
- القسم الأول: المعاهدون وهم الذين يسكنون في بلادهم، وبينهم وبين المسلمين عهد وصلح وهدنة إلى وقت معلوم، ككفار قريش وقت صلح الحديبية وككفار الدول الكافرة في عصرنا الذين بينهم وبين الحاكم المسلم عهد، وسفارات:
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
. - القسم الثاني: الذميون، وهم الكفار الذين يدفعون الجزية للمسلمين، لقوله تعالى:
حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
. - القسم الثالث: المستأمنون: وهم الذين يدخلون في بلاد المسلمين بأمانٍ من ولي أمر المسلمين أو من أحدٍ من المسلمين
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
. - القسم الرابع: الحربيون، وهم من عدا الأصناف الثلاثة السابقة من الكفار، فهؤلاء يشرع لإمام المسلمين أن يجاهدهم ويقاتلهم على حسب القدرة والطاقة، وقوة شعبه على ذلك. فالأقسام الثلاثة الأول يحرم غدرهم، وقتلهم ماداموا معاهدين أو مستأمنين، أو ذميين، ومن قتل أحداً منهم متعمداً فقد عصى الله ورسوله واستحق العقاب الأليم، واستحق لعنة الله وملائكته والناس أجمعين قال الله تعالى:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ
والمعنى انبذ إليهم عهدهم على سواء: يكون علمك وعلمهم سواء في أنك حرب لهم وهم حرب لك، فعن سُليم بن عامر رحمه الله قال:كان بين معاوية رضي الله عنه وبين الروم عهدٌ، وكان يسيرُ نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرسٍ – أو برذون – وهو يقول: الله أكبر، وفاءٌ لا غَدْرٌ، فنظروا فإذا عمرو بن عَبَسَةَ رضي الله عنه، فأرسل إليه معاوية فسأله. فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يَشُدَّ عُقدةً ولا يحلُّها، حتى ينقضي أَمَدُهَا أو ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية رضي الله عنه
❋.
لكل غادر لواءٌ عند استه يوم القيامة يعرف به
❋.وهذا يدل على تحريم قتل المعاهدين، والمستأمنين، والذميين، وقال عليه الصلاة والسلام:من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً
❋.وقال ﷺ:ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة
❋.وقال النبي ﷺ:…وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة صرفٌ ولا عدلٌ
❋، ومعنى ذمة المسلمين: أي عهدهم وأمانهم، فإذا أمّن أحد من المسلمين كافراً وأعطاه ذمته لم يكن لأحد نقضه، ويستوي في ذلك عهد وأمان: الرجل، والمرأة، والحر، والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة، وسميت الذمة بالعهد، لأنه يُذَمُّ مُتعاطيها على إضاعتها، وذمة المسلمين واحدة فإذا أمّن الكافر واحد من المسلمين حَرُمَ على غيره التعرض له، فمن أخفر مسلماً: أي نقضه عهده، وأزال أمانه الذي أعطاه لمن دخل في عهده، استحق لعنة الله وملائكته والناس أجمعين.أعوذ بالله من الشيطان الرجيمإِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
. - القسم الأول: المعاهدون وهم الذين يسكنون في بلادهم، وبينهم وبين المسلمين عهد وصلح وهدنة إلى وقت معلوم، ككفار قريش وقت صلح الحديبية وككفار الدول الكافرة في عصرنا الذين بينهم وبين الحاكم المسلم عهد، وسفارات:
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلم فاستغفروه إنه هو الغفور التواب الرحيم.
الخطـبة الثانيـة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله اتقوا وابتعدوا عن غضبه وعقابهِ ولعنته فإن من أفسد في الأرض وقتل الأنفس المعصومة، ونقض العهود، وقتل نفسه، وأهلك الأموال والحرث والنسل ظلماً وعدواناً استحق ما ذكر من العقاب الأليم، والذل والهوان. أسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين العفو والعافية.
والله أسأل أن يصلي ويسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ﷺ، وأن يرضى عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، والمفسدين المعتدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وانصر بهم الحق يا رب العالمين.
اللهم من أراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، واقطع آماله، واجعله عبرة للمعتبرين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، واغفر لموتانا وموتى المسلمين. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
. عباد الله اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.