بدأت رسالة عمان كبيان مفصّل أصدره صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ، عشيّة السابع والعشرين من رمضان المبارك عام 1425هـ/ التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004م، في عمّان، الأردن. وغايتها أن تعلن على الملأ حقيقة الإسلام وما هو الإسلام الحقيقي ، وتنقية ما علق بالإسلام مما ليس فيه، والأعمال التي تمثّله وتلك التي لا تمثّله
ملخص
بدأت كبيان مفصّل أصدره صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ، عشيّة السابع والعشرين من رمضان المبارك عام 1425هـ/ التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004م، في عمّان، الأردن. وغايتها أن تعلن على الملأ حقيقة الإسلام وما هو الإسلام الحقيقي ، وتنقية ما علق بالإسلام مما ليس فيه، والأعمال التي تمثّله وتلك التي لا تمثّله. وكان هدفها أن توضح للعالم الحديث الطبيعة الحقيقية للإسلام وطبيعة الإسلام الحقيقي.
ومن أجل إعطاء البيان شرعية دينية أكبر، بعث جلالة الملك عبدالله الثاني بالأسئلة الثلاثة التالية إلى أربعةٍ وعشرين عالماً من كبار علماء المسلمين من ذوي المكانة المرموقة من جميع أنحاء العالم، يمثلون جميع المذاهب والمدارس الفكرية في الإسلام:
تعريف من هو المسلم؟
وهل يجوز التكفير ؟
ومن له الحق في أن يتصدّى للإفتاء؟
واستناداً إلى الفتاوى التي أصدرها هؤلاء العلماء الكبار (الذين من بينهم شيخ الأزهر، وآية الله السيستاني، والشيخ القرضاوي)، دعا جلالة الملك عبدالله الثاني، في تموز (يوليو) 2005م، إلى عقد المؤتمر الإسلامي الدولي الذي شارك فيه مائتان من العلماء المسلمين البارزين من خمسين بلداً. وفي عمّان، أصدر العلماء بالإجماع توافقهم على ثلاث قضايا رئيسية غدت تعرف فيما بعد كــ “محاور رسالة عمّان الثلاثة”، وهي:
(1) إنّ كل من يتّبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنّة والجماعة (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، والمذهب الظاهري، فهو مسلم، ولا يجوز تكفيره. ويحرم دمه وعرضه وماله. وأيضاً، ووفقاً لما جاء في فتوى فضيلة شيخ الأزهر، لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعريّة، ومن يمارس التصوّف الحقيقي. وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح.
كما لا يجـــوز تكفير أيّ فئة أخــرى مـن المسلمين تؤمــن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وأركان الإيمان، وتحترم أركان الإسلام، ولا تنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
(2) إنّ ما يجمع بين المذاهب أكثر بكثير ممّا بينها من الاختلاف. فأصحاب المذاهب الثمانية متفقون على المبادىء الأساسيّة للإسلام. فكلّهم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، واحداً أحداً، وبأنّ القرآن الكريم كلام الله المنزَّل، وبسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً للبشرية كافّة. وكلهم متفقون على أركان الإسلام الخمسة: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، وعلى أركان الإيمان: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرّه. واختلاف العلماء من أتباع المذاهب هو اختلاف في الفروع وليس في الأصول، وهو رحمة. وقديماً قيل: إنّ اختلاف العلماء في الرأي أمرٌ جيّد.
(3) إنّ الاعتراف بالمذاهب في الإسلام يعني الالتزام بمنهجية معينة في الفتاوى: فلا يجوز لأحد أن يتصدّى للإفتاء دون مؤهّلات شخصية معينة يحددها كل مذهب، ولا يجوز الإفتاء دون التقيّد بمنهجية المذاهب، ولا يجوز لأحد أن يدّعي الاجتهاد ويستحدث مذهباً جديداً أو يقدّم فتاوى مرفوضة تخرج المسلمين عن قواعد الشريعة وثوابتها وما استقرَّ من مذاهبها.
وقد تبنت القيادات السياسية والدينية في العالم الإسلامي هذه النقاط الثلاث بالإجماع في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في مكّة المكرمة في كانون الأول (ديسمبر) عام 2005م. وعلى مدى عام من تموز(يوليو) 2005م إلى تموز (يوليو) 2006م، تم تبنّي النقاط الثلاث بالإجماع أيضاً في ستة مؤتمرات إسلامية عالمية أخرى، كان آخرها مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي العالمي (ومقرّه جدّة)، الذي عقد في عمّان في تموز (يوليو) 2006م. فكان محصلة ذلك أن ما يزيد على خمسمائة عالم إسلامي بارز من مختلف أرجاء العالم وافقوا بالإجماع على رسالة عمّان ومحاورها الثلاثة. [ يمكنكم إن تضغطوا هنا للاطلاع على قائمة الأسماء الكاملة لهؤلاء العلماء].
إن هذا يُعد بمثابة إجماع تاريخي ديني وسياسي من أمة الإسلام في أيامنا هذه، وتعزيز لصورة الإسلام الحنيف. و أهمية هذا هو: (1) أن هذه هي المرّة الأولى منذ ما يزيد على ألف عام تتوصل فيها الأمة رسمياً وبصورة مُحدّدة إلى مثل هذا الاعتراف المتبادل بين المذاهب المتعددة، (2) وأن مثل هذا الاعتراف ملزم قانونياً للمسلمين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : “إن أمتي لا تجتمع على ضلالة”
(ابن ماجة، السنن، كتاب الفتن، حديث رقم 3950).
وهذه أخبار طيبة، ليس للمسلمين الذين يوفر لهم قاعدة للوحدة وحلاّ للتنازع فيما بينهم فحسب، ولكن لغير المسلمين أيضاً؛ ذلك أن حماية المذاهب في الإسلام، تعني بالضرورة الحفاظ على الضوابط ووسائل الرقابة الداخلية في الإسلام. وبهذا تضمن وجود حلول إسلامية متوازنة للقضايا الرئيسية مثل حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحرية الأديان، والجهاد المقبول شرعاً، والمواطنة الصالحة للمسلمين في البلدان غير الإسلامية، والحكومة العادلة الديمقراطية. كما أنها تعرّي آراء الأصوليين المتطرفين والإرهابيين، غير المقبولة شرعاً من وجهة نظر الإسلام الحقيقي. ويحضرنا في هذا المقام ما صرّح به جورج يو وزير خارجية سنغافورة في الدورة الستين للجمعية العامة للأمم المتحدة (حول رسالة عمّان)، عندما قال: ” إن الحرب ضد الإرهاب ستكون أكثر صعوبة دون هذا التوضيح”.
وأخيراً، مع أنه يعتبر هذا، بفضل الله، إنجازاً تاريخياً، فمن الواضح أنه سيبقى قليل الفاعلية إن لم يمارس في كل مكان. ولهذا يسعى جلالة الملك عبدالله الثاني الآن لتنفيذه، بمشيئة الله، من خلال إجراءات عملية متنوعة، تشمل (1) المعاهدات ما بين المسلمين، (2) و التشريعات الوطنية والعالمية التي تستفيد من المحاور الثلاثة لرسالة عمّان لتعريف الإسلام وعدم إجازة التكفير، (3) و الاستفادة من النشر ووسائل الإعلام المتعددة في مختلف المناحي لنشر رسالة عمّان، (4) و إدخال تدريس رسالة عمّان في المناهج المدرسية والمواد الدراسية الجامعية في أنحاء العالم، (5) و جعل رسالة عمّان جزءًا من برنامج التدريب لأئمة المساجد وتضمينها في خطبهم ومواعظهم ودروسهم الدينية.
مضمون
رسالة عمان
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبّيه المصطفى
وعلى آله وأصحابه الغُرّ الميامين، وعلى رُسُل الله وأنبيائه أجمعين
قال تعالى: يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم
صدق الله العظيم “الحجرات: 13”.
هذا بيان للناس، لإخوتنا في ديار الإسلام، وفي أرجاء العالم، تعتز عمّان، عاصمة المملكة الأردنيّة الهاشميّة، بأن يصدر منها في شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، نصارح فيه الأمّة، في هذا المنعطف الصّعب من مسيرتها، بما يحيق بها من أخطار، مدركين ما تتعرّض له من تحدّيات تهدّد هويتها وتفرق كلمتها وتعمل على تشويه دينها والنيل من مقدساتها، ذلك أنّ رسالة الإسلام السمحة تتعرّض اليوم لهجمة شرسة ممن يحاولون أن يصوروها عدواً لهم، بالتشويه والافتراء، ومن بعض الذين يدّعون الانتساب للإسلام ويقومون بأفعال غير مسؤولة باسمه . هذه الرّسالة السمحة التي أوحى بها الباري جلّت قدرته للنبي الأمين محمد صلوات الله وسلامه عليه، وحملها خلفاؤه وآل بيته من بعده عنوان أخوّة إنسانيّة وديناً يستوعب النشاط الإنساني كله، ويصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكرّم الإنسان، ويقبل الآخر .
وقد تبنت المملكة الأردنيّة الهاشميّة نهجا يحرص على إبراز الصورة الحقيقيّة المشرقة للإسلام ووقف التجني عليه ورد الهجمات عنه، بحكم المسؤوليّة الروحيّة والتاريخيّة الموروثة التي تحملها قيادتها الهاشميّة بشرعيّة موصولة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، صاحب الرّسالة، ويتمثّل هذا النهج في الجهود الحثيثة التي بذلها جلالة المغفور له بإذن الله تعالى الملك الحسين بن طلال طيّب الله ثراه على مدى خمسة عقود، وواصلها، من بعده، بعزم وتصميم جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، منذ أن تسلّم الراية، خدمة للإسلام، وتعزيزاً لتضامن مليار ومائتي مليون مسلم يشكّلون خُمس المجتمع البشري، ودرءاً لتهميشهم أو عزلهم عن حركة المجتمع الإنساني، وتأكيداً لدورهم في بنــــاء الحضارة الإنسانيّة، والمشاركة في تقدمها في عصرنا الحاضر .
والإسلام الذي يقوم على مبادئ أساسها: توحيد الله والإيمان برسالة نبيّه، والارتباط الدائم بالخالق بالصلاة، وتربية النفس وتقويمها بصوم رمضان، والتكافل بالزكاة، ووحدة الأمّة بالحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وبقواعده الناظمة للسلوك الإنساني بكل أبعاده، صنع عبر التاريخ أمّة قويّة متماسكة، وحضارة عظيمة، وبشر بمبادئ وقيم سامية تحقّق خير الإنسانيّة قوامها وحدة الجنس البشري، وأنّ النّاس متساوون في الحقوق والواجبات، والسلام، والعدل، وتحقيق الأمن الشامل والتكافل الاجتماعي، وحسن الجوار، والحفاظ على الأموال والممتلكات، والوفاء بالعهود، وغيرها وهي مبادئ تؤلف بمجموعها قواسم مشتركة بين أتباع الديانات وفئات البشر؛ ذلك أنّ أصل الديانات الإلهيّة واحد، والمسلم يؤمن بجميع الرسل، ولا يفرّق بين أحد منهم، وإنّ إنكار رسالة أي واحد منهم خروج عن الإسلام، مما يؤسس إيجاد قاعدة واسعة للالتقاء مع المؤمنين بالديانـــــات الأخرى علـــــى صعد مشتركـــــــة في خدمة المجتمع الإنساني دون مساس بالتميّز العقدي والاستقــلال الفكري، مستندين في هذا كله إلى قوله تعالى آمن الرسول بما أنـــزل إليــــه من ربـــــــــه والمؤمنــــون كـــل آمــــن بالله وملائكتــــه وكتبـــــه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالــــوا سمعنا وأطعنــــا غفرانــــك ربنـــــا وإليك المصير
“البقرة: 285”.
وكـرّم الإسلام الإنسان دون النظر إلى لونه أو جنسه أو دينه ولقد كـرّمنا بني آدم وحملناهم في البّر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا “الإسراء:70”.
وأكّدّ أنّ منهج الدّعوة إلى الله يقوم على الرفق واللين أُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
“النحل: 125″، ويرفض الغلظة والعنف في التوجيه والتعبير فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر
“آل عمران:159”.
وقد بيّن الإسلام أنّ هدف رسالته هو تحقيق الرّحمة والخير للناس أجمعين، قال تعالى وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين
“الأنبياء: 107” ، وقال صلى الله عليه وسلم “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”
(حديث صحيح).
وفي الوقت الذي دعا فيه الإسلام إلى معاملة الآخرين بالمثل، حثّ على التسامح والعفو اللذين يعبّران عن سمو النفس وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله “الشورى:40” ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
“فصّلت:34”. وقرّر مبدأ العدالـــة فـــي معاملة الآخريــــن وصيانة حقوقهــــم، وعدم بخس النــــاس أشياءهم ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى
” المائدة:8″ ، إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
“النساء:58” ، فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
” الأعراف: 85″.
وأوجب الإسلام احترام المواثيق والعهود والالتزام بما نصت عليه، وحّرم الغدر والخيانة وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً
“النحل:91”.
وأعطى للحياة منزلتها السامية فلا قتال لغير المقاتلين، ولا اعتداء على المدنيين المسالمين وممتلكاتهم، أطفالاً في أحضان أمهاتهم وتلاميذ على مقاعد الدّراسة وشيوخاً ونساءً؛ فالاعتداء على حياة إنسان بالقتل أو الإيذاء أو التهديد اعتداء على حقّ الحياة في كل إنسان وهو من أكبر الآثام، لأنّ حياة الإنسان هي أساس العمران البشري من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً
“المائدة:32”.
والدين الإسلامي الحنيف قام على التوازن والاعتدال والتوسط والتيسير وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً
“البقرة:143” ، وقال صلى الله عليه وسلم “ويسرّوا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ”
(حديث صحيح) ، وقد أسّس للعلم والتدبّر والتفكير ما مكن من إيجاد تلك الحضارة الإسلاميّة الراسخة التي كانت حلقة مهمة انتقل بها الغرب إلى أبواب العلم الحديث، والتي شارك في إنجازاتها غير المسلمين باعتبارها حضارة إنسانيّة شاملة . وهذا الدين ما كان يوماً إلاّ حرباً على نزعات الغلوّ والتطّرف والتشدّد، ذلك أنها حجب العقل عن تقدير سوء العواقب والاندفاع الأعمى خارج الضوابط البشريّة ديناً وفكراً وخلقاً، وهي ليست من طباع المسلم الحقيقي المتسامح المنشرح الصدر، والإسلام يرفضها – مثلما ترفضها الديانات السّماوية السمحة جميعها – باعتبارها حالات ناشزة وضروباً من البغي، كما أنها ليست من خواص أمّة بعينها وإنما هي ظاهرة عرفتها كلّ الأمم والأجناس وأصحاب الأديان إذا تجمعت لهم أسبابها، ونحن نستنكرها وندينها اليوم كما استنكرها وتصدّى لها أجدادنا عبر التاريخ الإسلامي دون هوادة، وهم الذين أكّدوا، مثلما نؤكد نحن، الفهم الراسخ الذي لا يتزعزع بأنّ الإسلام دين أخلاقي الغايات والوسائل، يسعى لخير الناس وسعادتهم في الدّنيا والآخرة، والدفاع عنه لا يكون إلا بوسائل أخلاقية، فالغاية لا تبرر الوسيلة في هذا الدين . والأصل في علاقــــة المسلمين بغيرهم هي الســـــلم، فلا قتال حيث لا عدوان وإنما المودة والعدل والإحسان لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين “الممتحنة:8” ، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
“البقـرة:193”.
وإننا نستنكر، دينياً وأخلاقياً، المفهوم المعاصر للإرهاب والذي يراد به الممارسات الخاطئة أيّاً كان مصدرها وشكلها، والمتمثلة في التعدّي على الحياة الإنسانيّة بصورة باغية متجاوزة لأحكام الله، تروع الآمنين وتعتدي على المدنيين المسالمين، وتجهز على الجرحى وتقتل الأسرى، وتستخدم الوسائل غير الأخلاقية، من تهديم العمران واستباحة المدن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق
“الأنعام:151″، ونشجب هذه الممارسات ونرى أنّ وسائل مقاومة الظلم وإقرار العدل تكون مشروعة بوسائل مشروعة، وندعو الأمّة للأخذ بأسباب المنعة والقوّة لبناء الذات والمحافظة على الحقوق، ونعي أنّ التطرّف تسبّبَ عبر التاريخ في تدمير بنى شامخة في مدنيات كبرى، وأنّ شجرة الحضارة تذوي عندما يتمكن الحقد وتنغلق الصدور . والتطرف بكل أشكاله غريب عن الإسلام الذي يقوم على الاعتدال والتسامح . ولا يمكن لإنسان أنار الله قلبه أن يكون مغالياً متطرفاً . وفي الوقت نفسه نستهجن حملة التشويه العاتية التي تصوّر الإسلام على أنه دين يشجّع العنف ويؤسّس للإرهاب، وندعو المجتمع الدولي، إلى العمل بكل جدّية على تطبيق القانون الدولي واحترام المواثيق والقرارات الدوليّة الصادرة عن الأمم المتحدة، وإلزام كافة الأطراف القبول بها ووضعها موضع التنفيذ، دون ازدواجية في المعايير، لضمان عودة الحقّ إلى أصحابه وإنهاء الظلم، لأنّ ذلك من شأنه أن يكون له سهم وافر في القضاء على أسباب العنف والغلوّ والتطرف .
إنّ هدي هذا الإسلام العظيم الذي نتشرف بالانتساب إليه يدعونا إلى الانخراط والمشاركة في المجتمع الإنساني المعاصر والإسهام في رقيّه وتقدّمه، متعاونين مع كل قوى الخير والتعقّل ومحبّي العدل عند الشعوب كافةً، إبرازاً أميناً لحقيقتنا وتعبيراً صادقاً عن سلامة إيماننا وعقائدنا المبنية على دعوة الحق سبحانه وتعالى للتآلف والتقوى، وإلى أن نعمل على تجديد مشروعنا الحضاري القائم على هدي الدين، وفق خطط علمية عمليّة محكمة يكون من أولوياتها تطوير مناهج إعداد الدعاة بهدف التأكد من إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانيّة، بالإضافة إلى إطلاعهم على الثقافات المعاصرة، ليكون تعاملهم مع مجتمعاتهم عن وعي وبصيرة، قـل هذه سبيلي أدعــو إلى الله على بصيرة أنـا ومــن اتبعني
“يوسف:108” ، والإفادة من ثورة الاتصالات لردّ الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام بطريقة علميّة سليمة دون ضعف أو انفعال وبأسلوب يجذب القارئ والمستمع والمشاهد، وترسيخ البناء التربوي للفرد المسلم القائم على الثوابت المؤسّسة للثقة في الذات، والعاملة على تشكيل الشخصيّة المتكاملة المحصنة ضدّ المفاسد، والاهتمام بالبحث العلمي والتعامل مع العلوم المعاصرة على أساس نظرة الإسلام المتميزة للكون والحياة والإنسان، والاستفادة من إنجازات العصر في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وتبنّي المنهج الإسلامي في تحقيق التنمية الشّاملة الذي يقوم على العناية المتوازنة بالجوانب الروحيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والاهتمام بحقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة، وتأكيد حقّه في الحياة والكرامة والأمن، وضمان حاجاته الأساسيّة، وإدارة شؤون المجتمعات وفق مبادئ العدل والشورى، والاستفادة مما قدّمه المجتمع الإنساني من صيغ وآليات لتطبيق الديمقراطيّة .
والأمل معقود على علماء أمتنا أن ينيروا بحقيقة الإسلام وقيمه العظيمة عقول أجيالنا الشابّة، زينة حاضرنا وعدّة مستقبلنا، بحيث تجنبهم مخاطر الانزلاق في مسالك الجهل والفساد والانغلاق والتبعيّة، وتنير دروبهم بالسماحة والاعتدال والوسطية والخير، وتبعدهم عن مهاوي التطرّف والتشنج المدمّرة للروح والجسد؛ كما نتطلع إلى نهوض علمائنا إلى الإسهام في تفعيل مسيرتنا وتحقيق أولوياتنا بأن يكونوا القدوة والمثل في الدين والخلق والسّلوك والخطاب الرّاشد المستنير، يقدمون للأمّة دينها السمح الميسر وقانونه العملي الذي فيه نهضتها وسعادتها، ويبثون بين أفراد الأمّة وفي أرجاء العالم الخير والسلام والمحبّة، بدقّة العلم وبصيرة الحكمة ورشد السياسة في الأمور كلها، يجمعون ولا يفرقون، ويؤلفون القلوب ولا ينفرونها، ويستشرفون آفاق التلبية لمتطلبات القرن الحادي والعشرين والتصدي لتحدياته .
والله نسأل أن يهيئ لأمتنا الإسلاميّة سبل النهضة والرفاه والتقدّم، ويجنبها شرور الغلوّ والتطرف والانغلاق، ويحفظ حقوقها، ويديم مجدها، ويرسخ عزّتها، إنه نعم المولى ونعم النصير .
قال تعالى: وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون
“الأنعام: 153”.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،
عمّان
المملكة الأردنية الهاشمية
رمضان المبارك، 1425 هجرية
تشرين الثاني، 2004 ميلادية