إن جيلنا الحالي يعيش في زمن تتعرض فيه مبادئ الحوار الذي يجمعنا لتهديد حقيقي، فالإرهابيون الذين هاجموا باريس في تشرين الثاني الماضي، أو أولئك الذين قاموا بتفجيرات عمّان قبل عشر سنوات، أو غيرهم ممن ينتشرون في جميع أنحاء العالم، لن يتوقفوا عند الدمار والعنف فقط، بل إنهم يسعون لإسكات صوت التسامح والتعاون، وزرع الفرقة بيننا.
10 كانون الأول/ديسمبر 2015
(مترجم عن الإنجليزية)
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
فخامة الرئيس نابوليتانو،
معالي رئيس الوزراء رينزي،
معالي الوزير جينتيلونيٍ،
أصحاب الفخامة،
الحضور الكرام،
أشكركم جميعا. ويسعدني أن أشارك في افتتاح المؤتمر الرئيسي لمنتدى حوارات المتوسط في روما، حيث أعبّر باسم الجميع هنا عن الشكر لمضيفينا على احتضان هذا الحدث، الذي يجمعنا في هذا الوقت المهم.
أصدقائي،
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني
إن هذا اللقاء يمثل استمراراً لحوار حي ومتصل، فشعوب الشرق الأوسط وأوروبا وشمال إفريقيا تجمعها قرون من علاقات التجارة والتعاون وطلب المعرفة، والتواصل الفكري عبر الأعمال الأدبية والفنية، وماضينا الثقافي المشترك، والمواقع التراثية والتاريخية والمدن العصرية النابضة بالحياة على ضفتي المتوسط. وبالرغم من أننا نتحدث لغات مختلفة، إلا أن قيمنا المشتركة توحد صوتنا الذي ينادي بمبادئ التسامح والسلام والاحترام المتبادل.
إن جيلنا الحالي يعيش في زمن تتعرض فيه مبادئ الحوار الذي يجمعنا لتهديد حقيقي، فالإرهابيون الذين هاجموا باريس في تشرين الثاني الماضي، أو أولئك الذين قاموا بتفجيرات عمّان قبل عشر سنوات، أو غيرهم ممن ينتشرون في جميع أنحاء العالم، لن يتوقفوا عند الدمار والعنف فقط، بل إنهم يسعون لإسكات صوت التسامح والتعاون، وزرع الفرقة بيننا.
وحقيقة الأمر أن مصيرنا مشترك: فإما أن نحقق الأزدهار معا، وإما أن نفشل معا، فمنطقتانا مرتبطتان مع بعضهما فعليا في جميع الجوانب. ذلك أنه عندما تنهار اقتصاديات الدول أو أنظمتها السياسية، أوعندما يندفع اللاجئون هاربين بأرواحهم، أوعندما يضرب الجفاف آبار الماء والأراضي الزراعية بسبب التغير المناخي، أو عندما يعجز الملايين من الشباب عن إيجاد فرص العمل، فإنه لا يمكن ببساطة احتواء آثار هذه التحديات أو تجاهلها. فالمخاطر التي كان ينظر إليها ذات يوم كتحديات على مستوى وطني، أصبحت اليوم عالمية.
وبالرغم من ذلك، فإن الروابط التي تجمعنا تمنحنا أيضا القدرة على الاستجابة والرد على هذه التحديات. فالعمل كشركاء، ضمن إطار منطقة المتوسط برحابها الواسعة، سيطلق إمكانياتنا الهائلة وقدرتنا على صياغة المستقبل الذي نتطلع إليه، من خلال العمل سويةً في الميادين الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية، وقبل كل ذلك في ميدان القيم الجوهرية المشتركة التي علينا حمايتها من أجل مستقبل أفضل لنا جميعاً.
وأوضح مثال على الحاجة إلى الشراكة فيما بيننا يتمثل في أزمة اللاجئين الإقليمية التي نواجهها اليوم. إن بلدكم إيطاليا ودول أوروبية أخرى تشهد تدفق أشخاص يائسين. والأردنيون يدركون تماما معنى مواجهة هذا الواقع، والمعاملة الإنسانية المطلوبة منكم إزاءه، ذلك أن الأردن يتعامل ومنذ فترة أطول مع تحدي اللاجئين وأعبائه على مستوى أكبر، حيث تستضيف المملكة حاليا 4ر1 مليون لاجئ سوري، أي ما نسبته 20% من سكاننا، فيما ننفق ما يقدر بنحو ربع ميزانيتنا الوطنية لتغطية تكاليف استضافتهم.
وبالنسبة لنا في الأردن، فإن العمل والتعاطف الإنساني واجب أخلاقي. لكن حقيقة الأمر هي أننا، وعدد قليل من البلدان المضيفة الأخرى، نتحمل عبء اللاجئين نيابة عن المجتمع الدولي بأسره. والحل لا يكمن فقط في المساعدات الطارئة، رغم أهميتها، بل بشراكة عالمية شاملة لمعالجة الأزمة، التي نعلم بحكم الواقع أنها لن تنتهي قريبا.
واقتصادياً، يترجم هذا الأمر عبر دعم تنموي مستدام لنا، خاصة من خلال إيجاد فرص العمل وزيادة الدخل للأفراد. وبإمكان أوروبا، ومن خلال الشراكة معنا، وتعزيز الاتفاقيات التجارية، ودعم جهود تطوير بنيتنا التحتية، أن تساعد في بناء جوار متوسطي أكثر منعة وازدهارا، ما يوفّر فرصا واعدة على ضفتي المتوسط.
السيدات والسادة،
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني
لقد عمل الأردن بجهد مع المجتمع الدولي لصياغة نهج شمولي للتعامل مع مخاطر الجماعات الإرهابية. وقد قلت منذ البداية إننا نخوض حربا داخل الإسلام ضد هؤلاء الخوارج. ومع ذلك، وكما نشهد اليوم، فإن الإرهابيين الخارجين عن كل شرع وقانون يهددون العالم بأسره. وهم لا يستثنون شعبا من شرورهم ولا يحترمون حدودا، أخلاقية كانت أو جغرافية. فالشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين كلها مستهدفة من قبلهم. وعليه، فإن هذه حرب علينا خوضها والانتصار فيها كمجتمع عالمي موحد.
ولا بد لجهودنا أن تأتي في إطار استراتيجية أوسع تشمل سياسات وإجراءات عسكرية ودبلوماسية وخططا لتعزيز التنمية البشرية. وفي سوريا، فإن العملية السياسية هي السبيل الوحيد للمضي قدما نحو صياغة مستقبل مقبول للجميع بعيدا عن الطائفية، نحو مستقبل يحفظ وحدة سوريا واستقلالها. ونرى في محادثات فيينا بارقة أمل، يجب البناء عليها واستغلال الفرصة المتاحة لدفع العملية للأمام.
ويجب علينا، في كل مكان في العالم، أن نكون أوفياء للمبادئ التي توحدنا. ففي هذا الوقت، يحيي الجميع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ولكن ما لم ينل الشعب الفلسطيني حقوقه، فإن الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم ستهتز ثقتهم بواقع العدالة الدولية. في وقت تتغذى فيه الدعاية الإرهابية والقدرة على تجنيد المزيد من الإرهابيين على هذا الصراع، الذي ندفع ثمنه جميعا.
السيدات والسادة،
إن الاحترام المتبادل هو الأساس الحقيقي للشراكة. ونحن بحاجة إلى أن ندرك أهمية ترابطنا. المسلمون في أوروبا جزء من نسيج التاريخ والمجتمع هنا، تماما كما المسيحيون العرب جزء أصيل من النسيج الاجتماعي لمجتمعات الشرق الأوسط. وبلدان أوروبا ذات الأغلبية المسلمة في البلقان جزء من مستقبل القارة، تماما كما تمثل مناطقنا جزءاً من مستقبل عالمي مشترك. فالكراهية واضطهاد الأقليات لا يمكن أبدا تبريرهما أو السكوت عنهما. وهذه هي الرسالة التي يجب أن ننقلها للجيل القادم.
يأمرنا الإسلام بالرحمة والتعاطف، وحفظ كرامة الجميع دون استثناء. ويقول النبي محمد، صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”. وهذه القاعدة الجوهرية راسخة في المسيحية واليهودية وديانات أخرى. إنها الرسالة التي يجب أن ننقلها للجيل القادم.
أصدقائي،
تقوم شراكتنا بشكل أساسي على قيم التعاون وتقديم المساعدة. ولن تستطيع منطقتانا التقدم إلى الأمام، إلا إذا أنجزنا ذلك معاً. وهذه ليست مجرد حقيقة، بل إنها أكثر من ذلك، حيث تعبّر عن القوة الأخلاقية التي تضمن مستقبلنا المستدام. وهذه أيضاً رسالة يجب أن ننقلها للجيل القادم، ليس فقط من خلال ما نعلّمه بل من خلال ما نعمَلُه.
هنا، وعبر منتدى حوارات المتوسط في روما، تساهم أصواتكم في إيصال هذه الرسائل والمزيد منها بهدف الحفاظ على القيم الأخلاقية المشتركة وتعزيزها، وهي القيم التي تُبنَى عليها المجتمعات المتسامحة المستقرة والمنفتحة على الجميع.
متمنياً لكم جميعا كل التوفيق.
وشكراً.